نشر "معهد واشنطن" الأمريكي تقريرا تحت عنوان "النفط العراقي.. نعمة للسياسيين ونقمة على سكان البصرة؟"، بسبب غياب الرعاية الصحية الكافية من جانب الحكومة العراقية رغم ميزانيتها القياسية، وعدم إيلاء الاهتمام اللازم بالوقاية البيئية التي تحمي المواطنين في المناطق التي تشهد نشاطا متصاعدا في استخراج النفط وبرغم الأرباح الكبيرة التي تحققها الشركات العملاقة.
وذكر التقرير الأمريكي، الذي تابعه "سنترال"، أن تدهور الصحة العامة في مدن الاستخراج النفطي، يستدعي إجراءات وطنية ملموسة لإنهاء المعاناة المتضررين عبر توفير مراكز العلاج المتخصصة عبر أموال المنافع الاجتماعية المتأتية من الأرباح النفطية.
وتابع التقرير، أن البرلمان العراقي أقر في حزيران/يونيو 2023، موازنته العامة الاتحادية، للسنوات 2023،2024، 2025، حيث خصصت الدولة نحو 198.9 تريليون دينار (153 مليار دولار أميركي) لكل عام، وهو مبلغ طائل ويُعتبر الأكبر في تاريخ البلاد، مضيفا أنه برغم الميزانيات الضخمة التي تعتمدها بغداد، لا يزال العراقيون يعانون يوميا من هشاشة البنية التحتية، ونقص فرص العمل، وفقر الخدمات في شتى القطاعات، بما في ذلك الرعاية الصحية.
واشار التقرير تحديدا الى مدينة البصرة الغنية بالنفط، حيث يشكو السكان المحليون الذين يعيشون بالقرب من المواقع النفطية، من إرتفاع معدل الإصابة بالأمراض السرطانية، وأمراض الجهاز التنفسي والعصبي، مع ندرة وفرة الأدوية وفقر الرعاية الصحية الخاصة في القطاع العام، وهو ما يُجبر المرضى على السفر الى الخارج وتحديدا الى إيران والهند وتركيا والأردن ولبنان، وينفقون ما يصل إلى 6 ملايين دولار أميركي شهريا لتلقي الرعاية الصحية والعلاج، ما يساعد ذلك على هدر الأموال العامة وتوجيهها نحو الخارج.
وبين التقرير انه ليست هناك بيانات توضح أعداد المصابين بالسرطان منشورة في المواقع الحكومية، حيث تتعمد السلطات الصحية حجب أي معلومات أو بيانات توضح أعداد المرضى بالسرطان، فيتم التعامل معها على أنها مواضيع حساسة يجب عدم الخوض بها، ويتم معاقبة من يصرح بأي معلومة إلى وسائل الإعلام، مضيفا ان التكلفة البشرية تأتي كإضافة للخسائر الكبيرة التي تلحقها صناعة النفط بالبيئة، حيث تئنّ البيئة العراقية تحت وطأة الفساد المستشري، مُخلفًا وراءه كارثة بيئية تهدد صحة وحياة الأجيال القادمة.
واضاف التقرير انه في ظل غياب الرقابة والقوانين الرادعة لتقنين كمية الإنتاج بما يتوافق مع المعايير العالمية من أجل الحفاظ على البيئة، تُعلن الحكومة العراقية زيادة الإنتاج وإحالة عدد من الحقول النفطية إلى مناقصات لصالح شركات نفطية كبرى، ضمن جولات التراخيص، من دون مراعاة للمعايير البيئية، لافتا الى انه مع كل برميلٍ يُستخرج، تُلوّثُ الأرضَ والمياهَ والهواء، تاركةً وراءها دمارًا بيئيًا لا يُمكن إصلاحه.
اصابات الامراض مرتفعة
وذكر التقرير ان البصرة تضم أكبر حقول النفط في العراق، أبرزها، حقل الرميلة الذي ينتج نحو 40% من إجمالي النفط في العراق، بالاضافة الى حقول مثل
غرب القرنة:1 الذي يُنتج حوالي 560 ألف برميل نفط يوميًا، وحقل غرب القرنة:2 الذي يُنتج حوالي 500 ألف برميل نفط يوميًا، حقل الزبير الذي ينتج حوالي 220 ألف برميل نفط يوميًا، وحقل مجنون الذي يُنتج حوالي 450 ألف برميل نفط يوميًا، وحقل اللحيس الذي يُنتج أكثر من 140 ألف برميل نفط يوميًا، وحقل نهر عمر الذي يُنتج أكثر من 40 ألف برميل نفط يوميًا.
واستند التقرير على بيانات الأقمار الصناعية المتحسسة للمواقع النفطية، والتي تظهر أن حقل الرميلة هو من أسوأ حقول النفط في العالم في حرق الغاز المصاحب، حيث تتسرب المركبات السامة لتختلط بالهواء أثناء حرائق آبار النفط والمنتجات النفطية، ويمكن أن ترتفع السحابة الدخانية الناتجة عدة مئات من الأمتار وتنتشر على مئات الكيلومترات متبعة اتجاه الرياح، مشيرا الى ان المواد النفطية المحترقة، تنتج مجموعة واسعة من الملوثات، مثل السخام (الكربون في الغالب) والغازات (أبرزها ثاني أكسيد الكربون، وأول أكسيد الكربون، وثاني أكسيد الكبريت، وأكاسيد النيتروجين والمركبات العضوية المتطايرة (مثل البنزين) وكبريتيد الهيدروجين، والغازات الحمضية، والتي تسبب مخاطر صحية بالغة.
وذكر التقرير بان المدير العام الأسبق لشركة نفط البصرة، إحسان عبدالجبار، صرح في العام 2020، بان حقل نهر بن عمر يعتبر من أكثر الحقول جدلًا بشأن الملوثات النفطية والغازات المنبعثة، وأوعز بتخفيض إنتاج النفط الخام إلى الحد الأدنى لحماية البيئة من التلوث، لكن عملياً، لم تقم السُلطات بخفض الإنتاج.
ونقل التقرير عن الصحافي الاستقصائي صفاء خلف، قوله أن المُحددات البيئية والحمائية العراقية تضبط المسافة ما بين حقول النفط والمواقع السكنية لغاية 10 كم؛ لكن غالباً ما يتم التغاضي لتنخفض الى 5 كم بسبب مرونة الإجراءات وتداخل المواقع النفطية مع المناطق المأهولة لاسيما في الأرياف.
وبحسب خلف، فان "لائحة تلك المُحددات ظلّت غير مُحدثة، وواقعة تحت تأثير النظرة البيروقراطية القديمة التي تفترض اساساً أن المناطق المأهولة تقع خارج النطاق الجغرافي للنشاط الاستخراجي بفعل قلة السُكان، واستثمار مواقع نفطية مركزية خارج المدن، وحينها، اي قبل عقود، كان التمدد إلى مواقع بترولية لصيقة أو ضمن المناطق المأهولة غير مطروح، فضلاً أن العراق مرّ بفترات توقف أو خفض إنتاج طويلة بفعل الحروب المتتالية والعقوبات الدولية المُشددة، ما أثر على مراجعة المُحددات البيئية والحمائية."
غياب الاهتمام الصحي
ونقل التقرير عن خلف قوله ان "عقود الإنتاج النفطي (جولات التراخيص)، تُحتم على مُسببي الانبعاثات تعويض المتضررين وتمويل مشروعات تحسين البيئة المحلية؛ حتّى أن الوثيقة الحكومية للمساهمة المُحددة وطنياً بشأن تغير المناخ (NDC)، اقترحت ضرورة تحفيز شركات النفط والغاز على الإبلاغ عن الانبعاثات ضمن أطر شفافة وموثوقة، وإطلاق حملات لقياس الميثان المنبعث، إلاّ إن الشركات التي تهيمن على حقول الاستخراج، ابتكرت مهارب قانونية بمعونة الحكومة المركزية، للتملص من مسؤولية الكشف عن نسب حرق الغاز وآثار ملوثاته، فضلاً تأثيرات البيئية المُدمرة لكامل القطاع الاستخراجي." واعتبر خلف ان "البصرة قد تكون هي النموذج الأقوى الذين يبين مدى استهتار سياسات الدولة العراقية غير النظيفة".
ولفت التقرير الى ان الدستور العراقي يشير في المادة 111 منه على أن النفط والغاز هو ملك الشعب العراقي في كل الأقاليم والمحافظات، وينسجم هذا القانون مع القانون الدولي الذي يعتبر الثروات الطبيعية ملك الشعوب، في الوقت نفسه، تُلزم الشركات الكبرى في إقامة مشاريع وتوفير خدمات متنوعة ضمن المنافع الاجتماعية، لكن تلك الأموال تستغل في عمل مشاريع صغيرة، دون التركيز على المشاريع الأهم، لاسيما تلك المتعلقة في الصحة وعلاج الأمراض السرطانية التي تنتشر في محافظة البصرة بشكل مخيف.
وختم التقرير بالقول ان صمت الحكومة العراقية، رغم الموازنات المليارية الضخمة المعتمدة على الريع النفطي غير النظيف، بات يُفاقم من معاناة العراقيين ويحوّل استفادتهم من "الثروة السوداء" إلى نقمة.
واكد تقرير المعهد الامريكي ان تدهور الصحة العامة في مدن الاستخراج النفطي، يستدعي إجراءات وطنية ملموسة لإنهاء المعاناة المتضررين عبر توفير مراكز العلاج المتخصصة عبر أموال المنافع الاجتماعية المتأتية من الأرباح النفطية، فضلاً عن فرض محددات بيئية صارمة على الشركات النفطية، من اجل إحراز هدفين أساسيين هما: تحقيق العدالة البيئية بخفض الإنتاج، وثانياً إنصاف ضحايا الأنشطة النفطية المدمرة للبيئة ولصحة السُكان المحليين.