من الأقوال إلى الأفعال.. كيف رسم السوداني خارطة أمل في العراق؟
من تجارة “المخدرات” إلى الدبلوماسية: ماذا يعني تعيين مارك سافايا مبعوثا أمريكيا إلى العراق؟
أمانة بغداد ترفع جميع المطبات غير الرسمية وتعرض غرامة تصل لأكثر من مليوني دينار بحق من يضعها
اليوم.. مواجهة مصيرية للزوراء أمام مضيفه استقلال دوشنبه
السوداني يتمسك بالسيادة ويرفض الخطوات الأحادية من واشنطن
قد تمر بعض القرارات السياسية مرور الكرام على الرأي العام، لكنها في حقيقتها تحمل مؤشرات أعمق من ظاهرها.
وهذا النوع من القرارات ينطبق تماما على قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بتعيين رجل الأعمال مارك سافايا، مؤسس سلسلة متاجر “ليف آند باد” المتخصصة في تجارة الحشيشة (القانونية!!)، مبعوثا للولايات المتحدة إلى العراق.
قرار أثار الجدل في الأوساط السياسية والإعلامية، ليس فقط لطبيعة خلفية سافايا المهنية، بل لما يعكسه من تبدّل في معايير السياسة الخارجية الأمريكية.
سيرة مهنية خارج السياق الدبلوماسي
مارك سافايا ذو الأصول العراقية الكلدانية ليس دبلوماسيا محترفا، ولا خبيرا في شؤون الشرق الأوسط أو في العلاقات الدولية.
إنه رجل أعمال اشتهر في مجال تجارة الحشيشة في الولايات المتحدة، ولا يمتلك أي خبرة سياسية أو حكومية.
في الظروف الطبيعية، لا يمكن أن توضع سيرته الذاتية على طاولة أي لجنة ترشيحات دبلوماسية جادة.
لكن في زمن “الولاء قبل الكفاءة”، يصبح النجاح في التسويق التجاري مؤهلا للتمثيل السياسي، حتى في أكثر الملفات تعقيدا.
دلالات سياسية تتجاوز السخرية
بعيدا عن الطابع الهزلي الذي أثاره القرار، فإن التعيين يكشف عن ثلاث رسائل سياسية مهمة:
تراجع الاهتمام الأمريكي بالملف العراقي
فاختيار شخصية بلا خبرة ولا خلفية سياسية يبعث برسالة واضحة بأن العراق لم يعد في صدارة أولويات واشنطن.
فبعد عقدين من التدخل المباشر، يبدو أن الولايات المتحدة باتت تنظر إلى العراق بوصفه ملفا هامشيا يمكن التعامل معه بإدارة شكلية.
تغليب الولاء على الكفاءة
القرار يعكس نمطا جديدا في صناعة القرار الأمريكي، حيث باتت المناصب الدبلوماسية مكافآت للولاء السياسي أو الشخصي، لا نتيجة لتقييم موضوعي، وهذا النمط يعمّق أزمة الثقة في مؤسسات الحكم الأمريكية نفسها.
إهانة رمزية للدولة العراقية
اراسل واشنطن لشخص يدير متاجر للحشيشة ليكون ممثلا لها في بغداد، هو في حد ذاته رسالة استخفاف ضمني بمكانة العراق، إنها رسالة تقول، من دون كلمات: “نحن لا نأخذكم على محمل الجدية“.
انعكاسات القرار على الداخل العراقي
في العراق، يثير هذا التعيين أسئلة تتجاوز حدود البروتوكول:
فهل ستتعامل الحكومة العراقية مع هذا المبعوث كما لو كان سفيرا طبيعيا؟
وهل تمتلك الحكومة الشجاعة رفض اعتماده لان في تعيينه إهانة سياسية؟
الواقع يشير إلى العكس، إذ من المرجح أن تتعامل بغداد مع القرار بمنطق المجاملة الدبلوماسية، تجنبا لأي توتر مع واشنطن.
لكن هذا الموقف المتحفظ قد يفهم في الداخل العراقي على أنه خضوع وإضعاف لصورة الدولة، خصوصا في ظل تصاعد الخطاب الوطني الداعي إلى تأكيد السيادة.
الأثر الإقليمي والدولي
إقليميا: سينظر إلى هذا التعيين على أنه دليل إضافي على تراجع النفوذ الأمريكي في المنطقة.
فإيران وتركيا، ومعهما قوى إقليمية أخرى، قد تستنتج أن العراق لم يعد ساحة أولوية بالنسبة لواشنطن، وهو ما يمنحها هامشا أوسع لإعادة ترتيب حضورها الاستراتيجي هنا.
دوليا: ينعكس القرار على صورة الولايات المتحدة كقوة عظمى يفترض بها أن تتصرف بمسؤولية في علاقاتها الدبلوماسية.
فإذا كانت واشنطن لا تفرّق بين رجل أعمال في صناعة “الكيف” ومبعوث إلى دولة محورية مثل العراق، فذلك يضع علامات استفهام حول جدّية مؤسساتها في إدارة الملفات الدولية الحساسة.
الموقف الشعبي والسياسي في العراق
رغم أن القرار صدر من الخارج، إلا أن ردّ الفعل الحقيقي يجب أن يكون من الداخل العراقي.
فالشعب العراقي، الذي تحمل ويلات الاحتلال والحروب والضغوط الاقتصادية، يرى في مثل هذه القرارات استهانة بكرامته الوطنية.
وربما يشكّل الوعي الشعبي هذه المرة عامل ضغط على الحكومة لإبداء موقف أكثر وضوحا، لا سيما من القوى السياسية التي ترفع شعار “الاستقلال والسيادة”، وفي مقدمتها القوى الشيعية.
فالموقف من هذا التعيين سيكون اختبارا عمليا لصدق هذه الشعارات، لا مجرد ترديدها في البيانات والخطابات.
الخلاصة
تعيين مارك سافايا لا يمكن قراءته كحدث طريف أو استثنائي، بل هو علامة على تحول عميق في النظرة الأمريكية إلى العراق، من دولة شريكة إلى ساحة نفوذ هامشية.
كما أنه يعكس انحدارا في جدّية السياسة الأمريكية، حين تتحول المناصب الدبلوماسية إلى أدوات ولاء شخصي لا وسيلة للتواصل الاستراتيجي.
إن احترام الدول لا يقاس بعدد الاتفاقيات أو المساعدات، بل بنوعية من يمثلك لديهم، وإذا كانت واشنطن ترى أن العراق لا يستحق مبعوثا أكثر من تاجر مخدرات، فإن هذا وحده كاف ليعيد العراقيون النظر في طبيعة علاقتهم مع الولايات المتحدة.
اخيرا
الأمر ليس مزحة، بل مؤشر خطير على ما تبقى من مكانة العراق في العقل السياسي الأمريكي.
فإن لم تبادر الحكومة العراقية إلى مراجعة هذا التعيين، فعلى الأقل ينبغي أن يعبّر الشعب والنخب عن رفضهم له، لأنه يمسّ احترام الدولة وهيبتها، فالعراق ليس سوقا لتجارب واشنطن، ولا مختبرا دبلوماسيا لتجار الحشيش في أمريكا.
إنه بلد الحضارة الأولى، الذي علّم العالم معنى الدولة، ويستحق أن يخاطب بما يليق بتاريخه لا بما يليق بمزاج ديلر مخدرات.
الكاتب: عارف محمد