"خروج سريع ومنظم" لقوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة من العراق، هذا ما طالب به مؤخراً رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني، وسط تصاعد حدة التوتر بين تلك القوات وفصائل عراقية مسلحة، ما أثار مخاوف من توسع نطاق الصراع في الشرق الأوسط وزعزعة استقرار العراق.
فيما تعالت داخل البلاد أصوات تطالب منذ سنوات بانسحاب تلك القوات في أعقاب هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي الذي شنته حركة حماس على إسرائيل، وما أعقب ذلك من حرب مدمرة تشنها إسرائيل في قطاع غزة وتقول إنها تهدف إلى القضاء على الحركة.
وقد تعرضت قوات التحالف إلى عشرات الهجمات منذ ذلك الحين، وردت القوات الأمريكية بتنفيذ غارات ضد جماعات عراقية مسلحة.
وقال السوداني في حوار مع وكالة رويترز للأنباء: "لنتفق على إطار زمني (للانسحاب) يكون سريعا حتى لا نطيل أمد الوجود وتبقى الهجمات مستمرة"، مشيرا إلى أن الطريقة الوحيدة لتفادي حدوث تصعيد إقليمي هو وقف الحرب في غزة.
ما أسباب وجود تلك القوات في العراق؟
بعد غزو قوات دولية تقودها الولايات المتحدة للعراق عام 2003 وإطاحتها برئيسه آنذاك صدام حسين، انسحبت تلك القوات من البلاد في عام 2011. لكن في عام 2014، وبعد سيطرة ما يعرف بتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) على مدينة الموصل، ثاني أكبر المدن العراقية وإعلانه "الخلافة الإسلامية" في المناطق التي تمكن من بسط نفوذه عليها في العراق وسوريا، طلبت الحكومة العراقية رسميا من الولايات المتحدة والأمم المتحدة مساعدتها في هزيمة التنظيم وحماية أراضي العراق وشعبه، ما أفضى إلى عودة قوات تحالف بزعامة أمريكية إلى البلاد، وبدء ما يعرف بعملية "العزم الصلب" الرامية إلى مساعدة القوات العراقية على دحر قوات التنظيم واستعادة الأراضي التي سيطر عليها.
وكان هدف القوات الأمريكية هو تدريب الجيش العراقي وتقديم المشورة له. كما وفر التحالف غطاء جويا لقوات الأمن العراقية والفصائل المسلحة وقوات البشمركة الكردية التي حاربت التنظيم بين عامي 2015-2017، إلى أن تمت استعادة السيطرة على الأراضي التي انتزعها.
واحتفظت واشنطن بحوالي 2500 جندي في العراق، حتى بعد إنهاء مساعي تنظيم الدولة لإقامة خلافة إسلامية في عام 2019. وبحلول نهاية عام 2021، انتهت رسميا العمليات القتالية الأمريكية في العراق، وأصبحت مهمة قواتها هناك تقديم المشورة والعون للقوات العراقية لزيادة قدرتها على أن تعمل بشكل مستقل ضمن جهودها الرامية إلى التركيز على تحقيق الاستقرار للمناطق التي كانت خاضعة لسيطرة التنظيم وإعادة إعمارها، وفي الوقت ذاته مواصلة مداهمتها للمواقع الصغيرة التي لا يزال يتحصن بها التنظيم في غرب البلاد وفي مناطق واقعة عبر الحدود مع إقليم كردستان.
معارضة عراقية وتوترات
ولطالما لاقى وجود القوات الأمريكية في العراق معارضة من قبل العديد من الفصائل العراقية.
وفي بداية عام 2020، صدَق البرلمان العراقي على قرار يلزم الحكومة بالعمل على إنهاء وجود أي قوات أجنبية على الأراضي العراقية. جاء ذلك بُعَيد اغتيال قاسم سليماني قائد قوات فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني في غارة جوية أمريكية استهدفت مركبه في محيط مطار بغداد، وأسفرت أيضا عن مقتل أبو مهدي المهندس نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي العراقي وآخرين.
وصدرت تهديدات عدة عن فصائل عراقية مسلحة مقربة من إيران بطرد القوات الأمريكية المتواجدة على الأراضي العراقية في قاعدتي عين الأسد وأربيل. وتعرضت هاتان القاعدتان للعديد من الهجمات من قبل مسلحين عراقيين في عهد رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي، لكنها هدأت في عهد رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني، مرشح كتلة التيار التنسيقي، و الذي تولى منصبه في أواخر أكتوبر/تشرين الأول عام 2022.
يقول الأكاديمي والمحلل السياسي العراقي الدكتور علاء مصطفى إن "الانسحاب كان من ضمن الشروط التي وُضعت لحكومة محمد شياع السوداني، وقد تبنت هذا الموضوع. وبالمقابل، منحته الفصائل هدنة عززت موقفه لدى الجانب الأمريكي وأشعرته بأنه يمسك بالمفاتيح بيده ويسيطر على من يحمل السلاح".
وقد انهارت هذه الهدنة منذ اشتعال فتيل الحرب في غزة في أعقاب هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول.
ومنذ ذلك الحين، تعرضت القوات الأمريكية في العراق وإقليم كردستان العراق وسوريا إلى أكثر من 100 هجوم بالصواريخ أو المسيرات، من بينها هجوم صاروخي تعرضت له السفارة الأمريكية في الثامن من ديسمبر/كانون الأول الماضي.
وردت واشنطن بشن هجمات على فصائل مسلحة عراقية من بينها الحشد الشعبي وحركة النجباء المنضوية تحت مظلة الحشد، والتي يعتبر أمينها العام أكرم الكعبي من أبرز المنتقدين للولايات المتحدة، وقد دعا الكعبي في أعقاب مقتل عناصر من الحشد الشعبي في غارة أمريكية في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي إلى "إعلان الحرب على أمريكا" وإخراج قواتها من العراق.
ما هي حركة النجباء العراقية المسلحة وما دورها؟
وقبل يوم من إعلان رئيس الوزراء شياع السوداني في وقت سابق من الشهر الحالي عن تشكيل لجنة للتحضير لإنهاء مهمة التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة في العراق، استهدفت غارة أمريكية قائدا بارزا في حركة النجباء هو مشتاق طالب السعيدي الملقب بـ "أبو تقوى"، الذي وصفه مسؤول أمريكي في تصريحات لشبكة سي إن إن الإخبارية بأنه كان عضوا في "جماعة إيرانية تعمل بالوكالة في العراق وسوريا"، في إشارة إلى حركة النجباء.
وقد حاول السوداني قبل إعلانه الأخير إمساك العصا من المنتصف، إذ ذكر مكتبه الإعلامي أنه "جدد لوزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن موقف العراق الرافض لأي اعتداء تتعرض له الأراضي العراقية"، لكنه "جدد في الوقت ذاته التزام الحكومة العراقية بحماية مستشاري التحالف الدولي الموجودين في العراق".
ويقول علاء مصطفى إن الحكومة العراقية "كانت تحاول الإمساك بزمام الأمور، وكانت خطاباتها شديدة الوطأة على الفصائل، إذ إن بعض البيانات وصفت استهداف السفارة الأمريكية بأنه عمل إرهابي، وهذا الخطاب لم نره حتى في عهد حكومة مصطفى الكاظمي الذي لم يكن مقربا من الفصائل، بعكس شياع السوداني الذي يعد من مفرزات الإطار التنسيقي الذي يضم قوى سياسية وفصائل".
ويضيف أن "العملية الاستخباراتية، وأشدد أنها عملية استخباراتية لا علاقة لها بقوات التحالف وإنما نُفذت أمريكيةً خالصةً، وهي شبيهة بعملية المطار (التي قتل خلالها قاسم سليماني)، والتي استهدفت قيادة حركة النجباء، أحرجت الحكومة بشدة فأصبحت لا تستطيع أن تطالب بتجديد الهدنة. إذن ليس أمامنا الآن إلا إجراء مفاوضات تنتهي برحيل قوات التحالف".
وجود القوات ما بين المصالح الأمريكية والعراقية
من بين أبرز المصالح الأمريكية في الإبقاء على قواتها في العراق، وفقا لمقال بقلم ديفيد بولوك زميل برنامج برنشتاين بمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى نشر على موقع المركز على الإنترنت: الإبقاء على علاقات ودية مع العراق والتصدي للنفوذ الإيراني، ومنع إيران من "استغلال النفط العراقي". ويضيف بولوك أن انسحاب القوات الأمريكية "يخلق تهديدات إضافية لأمن إسرائيل، وأن " بلدان مجلس التعاون الخليجي كافة ترى القوات الأمريكية في العراق أساسا للوحدات العسكرية الأمريكية التي تستضيفها على أراضيها، وعاملا حيويا في دفاعها عن نفسها ضد إيران".
ويرى البروفيسور ستيف سايمون أستاذ دراسات الشرق الأوسط بجامعة واشنطن والمدير السابق لقسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بمجلس الأمن القومي الأمريكي في عهد الرئيس أوباما أن هناك عددا كبيرا من القطاعات العراقية التي تستفيد من الوجود العسكري الأمريكي.
ويضيف البروفيسور سايمون في تصريحات لبي بي سي أن " هناك فائدة مادية إذ تحصل الولايات المتحدة على خامات من العراق، وهناك فائدة استراتيجية لأن الوجود الأمريكي يحول دون عودة تنظيم الدولة من جديد ويحقق توازنا مع إيران. العديد من العراقيين لا يرغبون في الخضوع للهيمنة الأمريكية، لكنهم في الوقت ذاته لا يرغبون في الخضوع للهيمنة الإيرانية. الجيش العراقي يحصل على تدريب عالي الجودة وكذلك على معدات من الجانب الأمريكي، ولذلك يفضل بقاء الولايات المتحدة. كما أن الأكراد العراقيين يرون أن الوجود الأمريكي يحميهم من تركيا وإيران وبغداد، وهم كذلك يستفيدون من الناحية المالية من الوجود الأمريكي".
وعما إذا كان انسحاب القوات الأمريكية من مصلحة العراق يقول الدكتور علاء مصطفى إنه "من الناحية العسكرية، قيادات القوات المسلحة هي التي تقرر أننا بحاجة أم لا، وحين تقول قولها الصريح، ستلتزم الحكومة العراقية".
لكنه ينبه في الوقت ذاته إلى أهمية أن يتم ترتيب الانسحاب بشكل ودي مع الجانب الأمريكي على طريق التفاوض "كي لا يواجَه العراق بحزمة عقوبات اقتصادية نتيجة لتعامله مع بعض الدول الخاضعة لعقوبات أمريكية. كذلك إذا عرقل مجيء حزم الدولارات إلى العراق، فإن ذلك قد يحدث مشاكل اقتصادية".
يشار إلى أن الولايات المتحدة استثنت العراق من العقوبات التي تفرضها على طهران، إذ تسمح له بشراء الكهرباء من إيران.
ويقول البروفيسور سايمون إن الولايات المتحدة لن توقع عقوبات على العراق، ولكنّ "هناك شعورا، ولا سيما بين فصائل المقاومة بأن ذلك قد يحدث لو أجبرت القوات العراقية على الخروج..مجرد وجود هذا الشعور بين بعض العراقيين يكفي في حد ذاته للقبول بوجود القوات الأمريكية داخل العراق".
ويشدد الدكتور علاء على أهمية تركيز المفاوض العراقي على إنهاء كل الملفات "بمعنى، أنه إذا انسحبت القوات بدون معالجة الحواضن الإرهابية، ولا سيما مخيم الهول [في سوريا] الذي قد ينفجر في أي لحظة... فليس من السهل أن ترضى بوجود عبوة ناسفة خلف جدارك، ناهيك عن وجود قوات غير نظامية على الجانب السوري من الحدود، كل ذلك يشكل خطرا على أمن العراق".
وفي حين يرى البروفيسور سايمون أنه لا توجد ضغوط حقيقية على الحكومة العراقية تدفعها لمطالبة واشنطن بسحب قواتها، فإن الدكتور علاء يقول إن "اقتراب الانتخابات الأمريكية سيتسبب في رأيي في حالة من الحرج للحكومة الأمريكية والرئيس بايدن في حال تعرض هذه القوات لاستهداف تنتج عنه خسائر في صفوف الجانب الأمريكي، ولا سيما في الأرواح. لذا هم يعون خطورة الموقف وليس أمامهم الآن سوى الانخراط في مفاوضات تنظم هذا الانسحاب. المشكلة الفنية هي في زمن الانسحاب، كم يتطلب: سنة؟ اثنتين؟ ثلاث؟ لكن إذا رفضوا أو ماطلوا، فإنهم سيواجَهون بتصعيد قد يؤدي في نهاية المطاف إلى اتفاق".
ويشدد على أن المفاوض العراقي يجب أن يكون قادرا على استيعاب كل المتغيرات "ولا سيما المتغير الأساسي وهو اقتراب الانتخابات الأمريكية. ثانيا، الأزمات الإقليمية وحرب أوكرانيا وروسيا، وكذلك الصراع بين إسرائيل وغزة.
العامل الاستراتيجي الثالث هو حركة أنصار الله الحوثية وتمكنها من عرقلة مسيرة التجارة الأمريكية في باب المندب. هذه الأمور كلها أوراق ضغط يمكن أن توظف للخروج باتفاق يحفظ استقرار العراق".
المصدر: BBC