استندت صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية على "نموذج" صدام حسين في تقرير لها يحاول الاجابة عن السؤال المتعلق بأسباب تجعل الديكتاتوريين يربكون رؤساء الولايات المتحدة والمحللين الأمريكيين وحساباتهم، معتبرة أن جزءا من الإخفاق الأمريكي والأسوأ في السياسة الخارجية، جاء بسبب عدم فهم واشنطن لشخصية صدام وطريقة تفكيره.
واعتبر التقرير الأمريكي، المنشور باللغة الإنجليزية، وترجمته وكالة شفق نيوز، إن الولايات المتحدة ارتكبت في العراق "أسوأ خطأ في سياستها الخارجية في حقبة ما بعد الحرب الباردة" وذلك بعدما عندما غزته في العام 2003 بهدف نزع اسلحة الدمار الشامل من صدام حسين، لكن الحرب كلفت ثمنا باهظا في أرواح وموارد العراقيين والأميركيين، كما عملت على تعزيز ايران، وتسخين الصراعات الاقليمية بالوكالة التي اوقعت واشنطن في شرك الشرق الأوسط، وهو ما اعادت ادارة جو بايدن اكتشافه بشكل مؤلم.
وأوضح التقرير الأمريكي، أنه فيما حددت الولايات المتحدة الديكتاتوريات في الصين وروسيا باعتبارها التحدي الأكثر اهمية للامن القومي الامريكي، وفي حين أن زعيم كوريا الشمالية المعزول يمتلك اسلحة نووية وصواريخ عابرة للقارات، فإن قضية صدام حسين توفر دراسة نادرة وموثقة بشكل جيد حول سبب ارباك الزعماء السلطويين المحللين والرؤساء الأمريكيين في الكثير من الأحيان.
وبعدما تساءل التقرير عن كيفية تجنب الغزو الأمريكي للعراق، أشار الى المعلومات الاستخبارية الكاذبة والمتلاعب بها حول اسلحة الدمار الشامل في العراق، وخيارات الرئيس جورج بوش، والترويج للحرب، وتواطؤ وسائل الإعلام، لكنه اضاف انه من النادر أن جرى التدقيق في سؤال مركزي آخر وهو "لماذا ضحى صدام حسين بحكمه الطويل في السلطة، وفي نهاية المطاف بحياته، من خلال تكوين انطباع بانه يحتفظ بأسلحة خطيرة في حين انه لم يفعل ذلك؟".
واشار التقرير الى ان صدام حسين سجل محادثاته القيادية الخاصة بنفس الدرجة من الجدية التي قام بها ريتشارد نيكسون، اذ ترك خلفه حوالي الفي ساعة من التسجيلات الى جانب مادة ارشيف ضخمة لمحاضر الاجتماعات والسجلات الرئاسية، حيث ان هذه المواد توثق تفكير الرئيس العراقي خلال تحولات حرجة في صراعه الطويل مع واشنطن، بما في ذلك ردود أفعاله الخاصة تجاه احداث 11 ايلول/سبتمبر وخطط إدارة بوش للإطاحة به. كما أن هذه المحاضرة الموثقة توضح المسألة المعقدة المتمثلة في عدم تمكنه من اقناع مفتشي الأمم المتحدة ووكالات التجسس المتعددة والعديد من زعماء العالم، بأنه لا يمتلك اسلحة دمار شامل.
وتابع التقرير، ان الاشرطة المصورة، تظهر أنه بينما كان صدام حسين يتحدث عن القضايا العالمية، فإن من النادر ما يجرؤ زملاؤه على مقاطعته، مضيفا ان صدام حسين يظهر ذكياً وصاحب بصيرة بشكل مثير للأعجاب.
وعلى سبيل المثال، قال التقرير انه في تشرين الأول /أكتوبر 2001، اي بعد ايام من اعلان بوش الحرب على تنظيم القاعدة وطالبان، سأل صدام حسين حكومته قائلا: "هل في حال أنشأت أمريكا حكومة جديدة في كابول وفقا لرغباتها، فإن هذا سينهي الحرب؟. مشكلات الشعب الأفغاني؟ كلا.. فهي ستضيف المزيد من اسباب ما يسمى بالإرهاب بدلا من القضاء عليه.
وتابع التقرير ان صدام حسني في مواجهة العداء الامريكي، كان يعمد إلى المراوغة والخداع، مدفوعا بهدفين: ان يبقى في السلطة وتحقيق المجد في العالم العربي، ويفضل ان يكون ذلك من خلال ضرب اسرائيل.
واضاف التقرير، ان صدام كانت لديه معتقدات عنصرية قوية حول اليهود، وكان يشوش نفسه بنظريات المؤامرة حول القوة الامريكية والاسرائيلية في الشرق الاوسط، وبإعتقاده فإن الرؤساء الامريكيين المتعاقبين، هم تحت تأثير الصهيونية، ويتآمرون سريا وباستمرار مع آيات الله المتشددين في ايران بهدف اضعاف العراق. واضاف التقرير، ان مؤامرة ايران-كونترا خلال الثمانينيات، عندما تشاركت أمريكا لفترة قصيرة مع اسرائيل لبيع الاسلحة لنظام الخميني، عززت قناعات صدام حسين لسنوات قادمة. لكن التقرير قال ان صدام حسين لم يخطر بباله ان "ايران كونترا" تمثل سلسلة من انعدام الكفاءة المتهورة في السياسة الخارجية الأمريكية.
وبحسب التقرير، فان اسباب فشل صدام حسين في توضيح انه لم يكن يمتلك اسلحة دمار شامل في الفترة التي سبقت العام 2003، تكمن في نزاعه المأساوي الذي استمر عقودا مع واشنطن، وتعاونه الخفي وغير الموثوق به مع وكالة المخابرات المركزية خلال الثمانينيات، وحرب الخليج في عامي 1990 و1991؛ والكفاح المدعوم من الأمم المتحدة حول نزع سلاح العراق الذي تلى ذلك، والمواجهة بعد 11 سبتمبر/ايلول.
وقال التقرير، أن صدام وبعد وقت قصير من حرب الخليج الاولى، أمر بشكل سري تدمير اسلحته الكيماوية والبيولوجية، مثلما طالبت واشنطن والامم المتحدة، كما اعرب عن امله في ان تسمح هذه الخطوة للعراق بتخطي عمليات تفتيش نزع السلاح، لكنه أخفى ما فعله وكذب مرارا وتكرارا على المفتشين، كما أنه لم يقل الحقيقة لضباطه، خشية أن يثير هجمات داخلية أو خارجية.
وتابع التقرير، أن قرار صدام بالخضوع للمطالب الدولية والكذب حول ذلك لمفتشي الأمم المتحدة، يمثل تحديا للمنطق الغربي.
واوضح ان صدام حسين لم يكن يقبل أن يتعرض للإذلال بشكل علني، لأسباب من بينها انه كان يعتقد ان ذلك لن ينجح. وقال لاحد رفاقه ان "احد الاخطاء التي يرتكبها بعض الناس هو انه عندما يقرر العدو إلحاق الأذى بك، فإنك تعتقد أن هناك فرصة للحد الضرر من خلال التصرف بطريقة معينة.. لكن الضرر لن يكون اقل".
واوضح التقرير ان صدام صدق فكر أن وكالة الاستخبارات المركزية "سي آي ايه" كانت على علم بكل شيء، ولهذا، وخصوصا بعد هجمات 11 سبتمبر/ايلول، فإنه عندما اتهمه بوش باخفاء اسلحة الدمار الشامل، افترض صدام ان "سي اي ايه" كانت تعلم بالفعل بانه لا يمتلك اسلحة خطيرة ولهذا فان الاتهامات كانت مجرد ذريعة بهدف غزو العراق.
وتابع التقرير، ان فكرة ان "سي اي ايه" يمكن ان تكون قد ارتكبت خطأ تحليليا مثل اخفاقها فيما يتعلق باسلحة الدمار الشامل العراقية، لم تكن جزءا من نظرة صدام للعالم.
وتحدث التقرير عن اشرطة وملفات تم الحصول عليها من خلال دعاوى قضائية ضد البنتاغون، بعضها لم يتم السماح بالحصول عليها.
وقال التقرير، إن بعض هذه المستندات كانت لا تقدر بثمن بالنسبة للباحثين وحق الرأي العام الأمريكي بالاطلاع عليها حول ديكتاتورية صدام.
وتساءل التقرير عن الكيفية التي كان من الممكن ان يكون بها أداء صناع القرار في الولايات المتحدة افضل، وما هي الدروس التي قد تمثلها اخفاقاتهم اليوم.
وتابع التقرير، أن حوافز السياسة الديمقراطية التنافسية هي معادلة لتشويه صورة الاعداء، ولا تقدم سوى القدر الضئيل من الفضل في التفكير بشكل كبير في الطاغية او مخالفة الأحكام التقليدية المتعلقة بدوافعه.
واوضح التقرير، انه من الناحية النظرية، فإنه يتحتم على محللي الاستخبارات في "سي اي ايه"، وفي وكالات امريكية اخرى، ان يكونوا قادرين على التفكير وتقديم مشورتهم بحرية حول شخصية ودوافع اعداء امريكا الأكثر خطورة، مضيفا ان المحللين غالبا يقعون في التفكير الجماعي الذي يعيد تدوير الراي السياسي او العام السائد، وهو ما يفسر سوء تقدير مجتمع الاستخبارات حول اسلحة الدمار الشامل التي يمتلكها صدام حسين.
وبالاضافة الى ذلك، قال التقرير ان هناك عامل الدوافع السياسية المحلية التي تثني الرؤساء عن التحدث مع الديكتاتوريين الأعداء، لأسباب ممن بينها ان القيام بذلك قد يقوض العقوبات الاقتصادية التي تحاول الولايات المتحدة فرضها عليهم.
وذكر التقرير، كيف ان الرئيس الامريكي الاسبق بيل كلينتون قال رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير سرا في العام 1998، وهو يناقش مسالة صدام حسين، انه "لو لم اكن مقيدا بسبب الصحافة، فانني كنت سأرفع سماعة الهاتف واتصل بابن العاهرة".
واضاف كلينتون وقتها قائلا "لكن هذا قرار عبئه ثقيل في امريكا. لا يمكنني ان افعل ذلك".
وذكر التقرير انه بعد اوائل العام 1991، فانه يبدو ان اي مسؤول أمريكي كبير لم يتحدث بشكل مباشر مع صدام حسين او كبار مبعوثيه، مشيرا الى ان ذلك لم يحدث سوى بعد ان جرى اعتقاله في ديسمبر/كانون الاول 2003، عندما كان يدخن السيجار مع العديد من عناصر وكالة "سي اي ايه" ومكتب التحقيقات الفدرالي "اف بي اي" حيث بدأ صدام في تقديم رؤى ساعدت في تفسير سوء تقدير امريكا له.
ولفت التقرير إلى أنه لو كان مثل هذا التواصل الخاص المباشر قد حصل قبل العام 2003، فلربما كان سيتضح ان صدام عندما بلغ الستينيات من عمره، فقد الكثير من اهتمامه السابق بالشؤون العسكرية وأصبح مهووسا بكتابة الروايات.
ومع ذلك، قال التقرير إن صدام، في ظل تناقضاته العديدة، لم يكن ديكتاتورا غير عادي، حيث أنه غالبا ما توجد سمات مهمة في عهده في الانظمة الاستبدادية، مثل جنون العظمة بشأن التهديدات التي تواجه سلطة الزعيم، والمعلومات غير الموثوقة التي يقدمها مساعدون ماكرون ومذعورون، وعدم القدرة على فهم نوايا خصومه بشكل كامل.
ولفت التقرير إلى ان صدام مثله مثل فلاديمير بوتين وزعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون اليوم، حيث آثار توتر العالم من خلال الحديث عن الحرب النووية.
واوضح التقرير ان صدام أثناء حرب احتلال الكويت، كان مقتنعا بشكل كامل بأن ضربة نووية من جانب إسرائيل أو الولايات المتحدة ستستهدف العراق، لدرجة انه امر بوضع خطط لاجلاء سكان بغداد الى مناطق الارياف.
وتابع التقرير، ان تفكير صدام هذا ازعج حتى ابن عمه الغليظ علي حسن المجيد، المعروف باسم "علي الكيماوي"، والذي اعدم فيما بعد بسبب دوره في ابادة المدنيين الكورد بالغاز خلال الثمانينيات، حيث تذمر علي الكيماوي خلال أحد الاجتماعات المسجلة عندما قال ان "كل هذا الضجيج حول تأثيرات الهجوم النووي والذري.. يخيف الاطفال"، فصاح صدام حسين قائلا "ما نحن، مجموعة من الاطفال؟ اقسم على شواربك.. تنبهوا للدفاع المدني!".
واضاف التقرير، ان صدام برغم ذلك، أراد تجنب حدوث صراع نووي. واعتبر التقرير ان الدرس الأكثر اهمية المستفاد من هذا المثال، هو أنه حتى الدكتاتور المتسم بالتهور، يمكن أن يتم ردع عدوانيته، في حال أدرك بوضوح أن حياته او قبضته على السلطة قد تضيع.
ورأى التقرير، أن الرئيس بوش الأب، بعدما خدع بصدام حسين وضلل بالنصائح السيئة من الحلفاء العرب، فشل في توجيه رسالة ردع واضحة الى الزعيم العراقي قبل غزو العراق للكويت في آب/اغسطس العام 1990.
وتابع التقرير أن بوش الأب قام بتصحيح هذا الخطأ في اوائل العام 1991، بينما كان يستعد لإصدار أمر للقوات متعددة الجنسية بقيادة الولايات المتحدة، بطرد القوات العراقية من الكويت، حيث أرسل وزير الخارجية جيمس بيكر لينقل إلى كبير مبعوثي صدام حسين، انه اذا اطلق العراق الغاز على القوات الامريكية، فان الولايات المتحدة ستسقط حكمه.
وتابع التقرير، ان بيكر لم يذكر الاسلحة النووية، لكن الرئيس العراقي كان يعتقد فعلياً ان واشنطن لن تتردد في القاء القنابل الذرية.
واضاف التقرير انه مع اقتراب الحرب، نشر صدام حسين اسلحة كيميائية لاستهداف جنود الولايات المتحدة وحلفائها، إلا أنه تردد في لحظة اتخاذ القرار ولم يستخدم الغازات، مشيرا إلى أنه قام بعد ذلك بشهور، بإفراغ مخزوناتها هذه، ونجحت سياسة الردع.
وختم التقرير بالقول، أن هذه السياسة قد لا تنجح دائما، وان قضية صدام حسين تتضمن مفارقة، مشيرا الى ان صدام كان غريب الاطوار إلى الدرجة التي تجعل من غير الحكمة ان تتم المقاومة بأمن امريكا من خلال تخمين نواياه. واضاف، ان السياسة الأمثل هي أن يتم العمل على اساس قدرات العراق وتوجيه رسائل ردع واضحة ومقنعة.
وخلص الى القول ان الولايات المتحدة في نهاية الأمر، ارتكبت خطأ في تقدير قدراته في مجال اسلحة الدمار الشامل، لأنها فشلت في فهم من هو حقا صدام حسين.