الإعمار والتنمية يجدد تأكيده: لن نتخلى عن أحقيتنا في تشكيل الحكومة
قراءة في الخطاب السني المدني: المسارات، الإشكالات، والتجليات في نموذج يحيى الكبيسي
استعداداً لمواجهة البحرين.. المنتخب الوطني يجري أولى وحداته التدريبية في قطر
المنافذ: ضبط أدوية وأختام معدة للتهريب في منفذ طريبيل الحدودي
انفلات أمني في أربيل.. بارزاني يحرّك قوات "گولان" لقمع التظاهرات واعتقال المحتجين
قراءة في الخطاب السني المدني: المسارات، الإشكالات، والتجليات في نموذج يحيى الكبيسي
عارف محمد
أعاد التحوّل السياسي بعد عام 2003 تشكيل بنية الدولة العراقية، وفتح الباب أمام أنماط جديدة من التعبير السياسي داخل المكوّنات كافة، بما فيها البيئة السنية التي انتقلت من موقع “السلطة المطلقة” إلى موقع “الفاعل المتأقلم مع نظام جديد”.
في هذا السياق برز ما يمكن تسميته بـ الخطاب السني المدني، خطاب لا يقدّم نفسه بصفته طائفيا، بل يتبنّى لغة المواطنة والدستور والحقوق، لكنه – في العمق – يعكس وعيا هوياتيا جديدا تشكل تحت ضغط التحوّلات بعد 2003.
ويمثل الباحث يحيى الكبيسي أحد أبرز وجوه هذا الخطاب، فهو يكتب بلغة مدنية قانونية، لكنه ينطلق من مقاربة تعكس إدراكا سنيا لموقع المكوّن في الدولة بعد التغيير، وهذا الجمع بين “المدنية الشكلية” و”الهوية المنهجية” يجعله نموذجا تحليليا مهما لفهم تطور الخطاب السني المعاصر.
الجذور التاريخية قبل 2003
كانت النخبة السنية قبل 2003 جزءا عضويا من الدولة، ومتشابكة مع مؤسسات القرار المدني والأمني، وهذا الموقع أنتج خطابا محافظا، يركّز على استدامة النظام أكثر من المطالب المدنية أو النقد المؤسسي.
ومع سقوط الدولة وتفكّك مؤسساتها، انتقلت البيئة السنية من “موقع السلطة” إلى “موقع المكوّن المتحوّل”، ما خلق فراغا في الهوية السياسية، ومهّد لبروز خطابات جديدة تبحث عن تفسير للموقع الجديد داخل دولة أُعيد بناؤها على أساس توازنات مختلفة.
صدمة (2003-2006) وبدايات التشكل
أدّت قرارات الاحتلال، من حلّ الجيش، اجتثاث البعث، وإعادة هيكلة الدولة، إلى إدراك سني واسع بـ “فقدان الدور المركزي”.
وهذا الإدراك ولّد مسارين:
مسار مسلح راديكالي حاول استعادة الدور بالقوة.
مسار سياسي – مدني! لجأ إلى مفردات الدستور، العدالة، والمساواة، دون خطاب طائفي مباشر.
ومن هذا المسار الأخير خرجت البذرة الأولى للخطاب السني المدني، كصيغة احتجاجية حديثة تتجنب الطائفية الصريحة لكنها مشبعة بشعور الهامشية الجديدة.
صعود النخب المدنية (2006-2011)
مع ارتفاع منسوب العنف الطائفي، ظهرت نخبة جديدة من الكتّاب والباحثين والإعلاميين السنّة الذين اعتمدوا لغة قانونية، نقدية، تركّز على:
إصلاح بنية الدولة.
سيادة القانون.
حماية حقوق المواطنين السنّة دون إعلان ذلك بصيغة طائفية.
لكن “نبرة المظلومية” بقيت حاضرة ولو بصيغة مموّهة، تعكس تأثّر الخطاب بالتحوّل الهويّاتي بعد 2003.
احتجاجات (2011-2014) وتكريس المدنية
أسهمت موجات الاحتجاج في المحافظات السنية وغيرها في توسيع مساحة الخطاب المدني، خصوصا مع ضعف البدائل السياسية وارتفاع الضغوط الاقتصادية.
وركزت هذه المرحلة على:
إنهاء التهميش الإداري والسياسي.
تحسين الخدمات وإعادة الإعمار.
مراجعة القوانين المثيرة للجدل!
لكن تشتت الموقف السني وغياب قيادة موحدة حدّا من قدرة الخطاب المدني على التحول إلى مشروع سياسي كامل.
مرحلة ما بعد داعش (2014-2018) إعادة إنتاج الهوية المدنية
شكّلت حقبة داعش نقطة انعطاف جديدة، فمع انهيار الخيار المسلح تماما، برزت الحاجة لخطاب مدني مؤسساتي يطالب بـ:
إعادة الإعمار وعودة النازحين.
إنهاء الإجراءات الأمنية الاستثنائية.
تمثيل سياسي أكثر توازنا.
غير أن هذا الخطاب صار أكثر حساسية تجاه ما يراه “اختلالا بنيويا في السلطة”، وهو ما سيظهر بوضوح في خطاب (يحيى الكبيسي) لاحقا.
الخصائص الفكرية للخطاب السني المدني
يمكن تلخيص سمات هذا الخطاب في أربع نقاط مركزية:
مدنية لغوية تعتمد على الدستور والشرعية والمؤسسات.
نقد متمركز حول السلطة ويرى أن النظام السياسي بعد 2003 خلق اختلالا لصالح طرف معين.
نبرة دفاعية مضمرة عند الحديث عن حقوق السنّة وموقعهم.
مدنية منتقاة، تجمع بين خطاب المواطنة ووعي هوياتي تشكّل تحت ضغط التحولات بعد 2003.
بهذه المعادلة، يصبح الخطاب السني المدني ليس خطابا طائفيا، لكنه أيضا ليس خطابا وطنيا خالصا، بل خطابا هجينا بينهما.
يحيى الكبيسي نموذجا
يمثل الكبيسي نموذجا واضحا لهذا الاتجاه لعدة أسباب:
مدنية في اللغة:
فهو يكتب بمنطق القانون،الدستور، المحكمة الاتحادية، هيكلة المؤسسات، التمثيل العادل… ولغة نظيفة، احترافية، وغير طائفية لفظيا.
هويّة في المنهج:
بينما في الواقع فأن الكبيسي ينطلق من زاوية ترى أن:
القوى الشيعية تهيمن على مفاصل السلطة.
القضاء مسيّس.
النفوذ الإيراني هو العامل الأكثر تأثيرا في الدولة.
السنّة فقدوا موقعهم الطبيعي في الحكم.
وهذه ليست مقاربة أكاديمية خالصة، بل مقاربة هويّاتية صيغت بلغة مدنية.
نقد انتقائي:
وهو يكثّف نقده للقوى الشيعية، فيما يتغافل عن نقد القوى السنية والكردية، رغم أنها فاعل رئيس في المشهد السياسي الذي ينتقده.
تأثير النخبة:
خطابه مؤثر داخل الوسط السني المدني والنخب الإعلامية، لكنه لم يتحول إلى خطاب جماهيري واسع.
وبهذا يمكن توصيفه بدقة على انه:
“مثقف سنّي بثوب مدني، وليس مفكرا وطنيا محايدا”
أثر الخطاب السني وإمكاناته
ساهم الخطاب السني المدني في:
إبراز مسائل الإقصاء والتمثيل.
تقديم مقاربات نقدية بناءة أحيانا للمؤسسات.
دفع الحوارات داخل البيئة السنية نحو مساحات مدنية بدلا من المسلحة.
لكن محدوديته تكمن في:
غياب مشروع سياسي واضح.
بقائه محصورا في النخب.
بقائه أسير رؤية طائفية معلنة وغير معلنة.
اخيرا
الخطاب السني المدني هو نتاج تحوّل تاريخي عميق في موقع السنّة داخل الدولة العراقية بعد 2003 وهو خطاب يجمع بين:
لغة المواطنة.
وهويّة سياسية تشكّلت تحت ضغط الهامش الجديد.
ويمثل يحيى الكبيسي أوضح نماذج هذا الاتجاه، فهو مدني في الأسلوب، لكنه ينظر للمشهد العراقي من “موقع الهويّة السنية” لا من “موقع الدولة الكاملة”.
وهذا لا يجعله خطيبا طائفيا، لكنه يجعله جزءا من خطاب هويّاتي ذي أدوات مدنية.
كما إن مستقبل الخطاب السني المدني مرتبط بقدرته على:
التخلص من انتقائيته الهوياتية.
والتحول نحو مشروع وطني شامل.
أو الانكماش داخل سردية مكوّن واحد…
وبين هذين المسارين يتحدد دور الخطاب في تشكيل العراق خلال السنوات المقبلة.