تحولت إلى مدينة "اسمنتية".. انتقادات لـ"تخريب" الوجه التاريخي لبغداد القديمة والأمانة في دائرة "الاتهام"

14:12, 26/05/2024
443

يوجه نخبة من المعماريين العراقيين نقداً لاذعاً إلى الإجراءات غير المسبوقة التي اتخذتها الإدارات الرسمية المتعاقبة المشرفة على العاصمة بغداد، والهدم المتواصل لمبانيها التراثية التي تضاءلت رويداً رويداً، حتى غدت بغداد مدينة أسمنتية يطلى وجهها كل يوم بألوان لا تليق بعراقتها ومكانتها وعمرها الذي تخطى الـ 1000 عام.

ومن بين أبرز المشغولين بهذه الظاهرة المهندس ومصمم المدن العراقي تغلب الوائلي الذي يوجه لوماً شديداً لأمانة بغداد جراء ما يصفه بالفوضى التي ترافق إعادة إعمار بغداد من دون عناية بتاريخها، والتفريط بتراثها والمعايير المعتمدة التي يقول إنها "تفتقد الدقة والمعرفة بالتاريخ، وغياب الحرفية في أسلوب وطرق التعامل مع مبانيها التاريخية والتراثية معاً".


قناة سنترال على منصّة التلغرام.. آخر التحديثات والأخبار أولًا بأوّل

ويتهم الوائلي علناً أمانة بغداد بأنها المسؤولة عن التفريط بممتلكات ومباني العاصمة، وبأنها "ستخرب وجه المدينة التاريخي الذي يمتد لقرون سحيقة، باستخدام الطلاء الرخيص واللجوء إلى صنفرة السطوح وأمور أخرى كثيرة، ليسوغوا صرف مبالغ هائلة على أعمار بغداد المزعوم".

مدينة الفوضى

وكان الوائلي تقدم بمشروع طموح عن إعمار مدينته بغداد، وعن ذلك يقول إنه "قبل 13 عاماً، ولكوني الاستشاري المكلف بمشروع تطوير شارع الرشيد، وبعد المصادقة على الدراسات التخطيطية والمعمارية رسمياً، قمت خلال إعداد المكتب المخططات التنفيذية للقطاع ما بين جسر الشهداء وجسر باب المعظم، بتحديث مسوحات المنطقة المعنية للمرحلة الأولى من المشروع، والمحددة ما بين جسر الباب المعظم والمدرسة المستنصرية وما بين شارع الرشيد وضفة النهر، وذلك لضمان عدم وجود عوائق قد تؤدي إلى تعطيل المشروع، أو إلى مطالبات أو مشكلات تعاقدية مع المقاولين، فقد قمت بتنبيه أمانة بغداد إلى عدد من النقاط والقضايا الملحة التي تحتاج إلى اتخاذ إجراءات محددة وفورية للحفاظ على بعض المباني التراثية في ذلك القطاع، كما أوضحت التحديات والتداعيات المحتملة لها".

ويضيف، "النقاط الـ 10 التي جاءت ضمن حزمتين والتي يفترض أن تتخذ فيها أمانة بغداد إجراءاتها، لم يتخذ حيالها أي إجراء حتى اليوم بعد مضي كل هذه الأعوام، بل على العكس اتخذت إجراءات بالضد منها، فالمباني التي طلبنا حمايتها تهدمت، والأمور التي حذرنا منها حدثت، لكنها اتخذت إجراء واحداً نتيجة هذا الكتاب، ولم يكن مطلوباً منها، وهو سحب العمل ووقف المشروع والتخلص من الاستشاري، لأنني كشفت عن أخطار محتملة لسقوط بعض المباني التراثية، أو محاولات إزالتها بدعوى القدم".

ويتساءل المعماري الذي كرس جهده لبغداد وتراثها، "ترى من يحاسب هذه الإدارات على ما تقوم به من سوء إدارة وإهمال مقصود أو غير مقصود أدى إلى تدهور المنطقة وتعطيل أمور المواطن واندثار المباني التراثية فيها؟ إن ترك بغداد من دون مخطط أساس لأكثر من 20 عاماً أدى لغرق المدينة في الفوضى وتدني مستوى العيش فيها، حتى سجلت لثلاثة أعوام متتالية كأحد أسوأ المدن للعيش في العالم".


وقفة متأنية

وحول قيمة بغداد وإرثها المعماري يقول أستاذ الهندسة بـ "جامعة بغداد" خالد السلطاني، "تمتلك المدن التاريخية امتيازاً إضافياً بالقياس إلى الحواضر المعاصرة، فبغداد من تلك المدن التي ينطوي مشهدها على مآثر تاريخية مهمة إضافة إلى كونها مدينة معاصرة، وهذا الازدواج الوظيفي لبغداد يحتم علينا ألا نعزل أو نهمل ذلك الجانب التاريخي المهم من خصوصية المدينة، بل نبقيه كشاهد تاريخي يثري المشهد ويجعل منه مصدراً لاجتراح مقاربات تصميمية تنتمي إلى روح المكان، مما يجعل المشهد الحضري قريباً إلى ذائقة السكان، ويبعد من المدينة حال التغريب الكامنة في مخططات غالبية المدن المعاصرة". 

ومن هنا تنبع، بحسب السلطاني، أهمية الموروث البنائي وقيمته العمرانية في مخطط المدن، لكن ما نشاهده في بغداد من إهمال لهذا الجانب المهم وعدم الاكتراث به أو التعاطي معه بحس شعبوي مبتذل يسيء أولاً إلى الشواهد التراثية، ويجعل منها ثانياً عوائق تخطيطية.

ويؤكد أستاذ الهندسة، "نحتاج إلى وقفة متأنية ونظرة عميقة وشاملة لفهم مقاصد التخطيط الحضري، مثلما نحتاج إلى احترام الضوابط والقوانين التي تراعي حرمة تلك المآثر وقيمتها في ذلك المخطط، وبغير ذلك فإننا مقبلون على حال لن نستطيع معها الحفاظ على تلك المآثر، كما لا يمكن لوجودها أن يضيف شيئاً إيجابياً إلى مخطط مدننا العريقة".


التحديث العشوائي  

إحسان فتحي، وهو معماري ومخطط ومتخصص في الحفاظ على التراث، يرى أن "المناطق التاريخية في بغداد، وهي الرصافة والكرخ والكاظمية والأعظمية، كانت بنسيجها العمراني المتراص والكثيف حتى العشرينيات من القرن الماضي تشكل مساحة إجمالية قدرها نحو سبعة كيلومترات مربعة، وتتكون من آلاف البيوت التقليدية ذات الأفنية الداخلية المفتوحة، والبيوت المميزة المطلة مباشرة على نهر دجلة، ومئات من المساجد والأضرحة والأسواق والخانات والحمامات التاريخية المميزة بطرازها المعماري البغدادي، وغيرها من الفراغات الحضرية ضمن نظام معقد ومتعرج من الأزقة والدروب التي تربط بين مختلف المحال السكنية ومكوناتها المختلفة".

ويستدرك، "لكن هوية المدينة التاريخية العظيمة التي كانت مركز العالم الإسلامي لنحو 500 عام بدأت تتعرض للتغيير والتدمير من خلال عمليات التطوير والتحديث العمراني التي تسارعت في المناطق التاريخية منذ ثلاثينيات القرن الماضي، وفي الحقيقة فإن أهم وأضخم مظاهر هذا التجديد بدأت في قلب مركز الرصافة التاريخي، وهي منطقة الأسواق القديمة (باب الأغا) و(الشورجة)، حيث لم تمانع أمانة العاصمة هدم عدد من المباني التاريخية مثل جامع مرجان وخانات وأسواق تقليدية، بل شجعت تحويل هذه المنطقة إلى مركز تجاري يعج بالبنوك والعمارات التجارية العالية كعمارة الدامرجي (7 طوابق - 1948)، وعمارة بنك الرافدين (15 طابقاً - 1954)، والبنك العثماني (1956) وعمارة أوقاف الدفتردار (14 طابقاً - 1955)، إضافة إلى عمارات تجارية عالية على امتداد شارع الرشيد ومناطق تاريخية أخرى".

ويؤكد فتحي أن "كل هذه المشاريع الحديثة والشوارع العريضة دمرت وشوهت مناطق بغداد التاريخية بدرجة كبيرة، بل تشير آخر المسوح إلى أن ما تبقى من نسيج بغداد التاريخي حالياً لا يتجاوز 15 في المئة من مساحتها التاريخية الأصلية، وحتى هذه البقايا الآن مهددة بالإزالة أو الانهيار بسبب الإهمال الكلي وانعدام الصيانة، وعلى عكس ما حصل في عدد من مدن العالم التاريخية، وحتى في مدن عربية في تونس والمغرب، حيث حوفظ على المدن القديمة وأسوارها وبواباتها، وسمح للعمران الحديث أن يشيد خارجها وليس داخلها إلا في حالات استثنائية جداً".

ويضيف، "إن جميع الدراسات التخطيطية التي تسعى إلى الحفاظ على مدينة بغداد التاريخية، والتي أعدت من قبل جهات استشارية متخصصة عراقية وأجنبية بتكليف من أمانة بغداد، قد أهملت تماماً وطواها النسيان بسبب عدم توفر القرار السياسي الحازم، وجهل الجهات البلدية العراقية بأهمية التراث الحضاري في مدنها، ومحاولات محو بغداد التاريخية كلياً من الوجود وتحويلها إلى مدينة بلا هوية".


مدينة تصارع الموت 

ويذهب فتحي إلى الحديث عن الظاهرة الأخطر التي تعانيها بغداد، وهي "الغياب شبه الكامل لأي نوع من السيطرة البلدية على تنظيم العمران في بغداد، فلقد انتشرت خلال الأعوام الـ 10 الأخيرة ظاهرة تقسيم قطع الأراضي السكنية السابقة، والتي كانت مفرزة أساساً على مساحات تراوحت ما بين 600 و 200 متر مربع، إلى قطع صغيرة جداً بعضها لا يزيد على 50 متراً مربعاً، وبدأنا نرى تجار العقار يشترون بيوت الأعظمية والمنصور والعطيفية والكرادة وأي مكان متاح آخر ليقسموا الـ 600 متر إلى 10 أدوار سكنية، في تجاهل كامل وتحد صارخ للقوانين السارية غير النافذة التي تحدد المساحة الصغرى المسموح بها بـ 200 متر مربع".

ويوضح، "إذا اعتبرنا أن عدد سكان مدينة بغداد حالياً هو 8 ملايين نسمة، وأن مساحتها ضمن الحدود البلدية حوالى 900 كيلو متر مربع، فإن الكثافة السكانية تبلغ حوالى 8850 شخصاً لكل كيلومتر مربع، وهذا الرقم عالٍ في الحقيقة إذا ما قارناه بالمدن المشابهة الأخرى، فإسطنبول مثلاً يبلغ عدد سكانها نحو 15 مليون نسمة على مساحة 5460 كيلومتراً مربعاً، وبالتالي فإن كثافتها السكانية تبلغ 2750 شخصاً في كل كيلومتر مربع، بينما يسكن قرابة 14 مليون شخص في طوكيو على مساحة 2188 كيلو متر مربع، لتبلغ الكثافة نحو 6370 شخصاً، أي أقل من بغداد بكثير".

ويعتقد فتحي أن "بغداد، هذه المدينة التاريخية العظيمة التي صمدت أكثر من 1250 عاماً حتى الآن، تترنح حالياً تحت ضربات ساحقة تأتيها من جهات عدة لا تكترث لوجودها أصلاً، فهي تصارع الموت بكل معنى الكلمة، وهي مهددة فعلياً بالتفتت والتحول الى كانتونات تحكمها ميليشيات مسلحة، فهناك غياب كامل للسلطة المركزية مما يضطر سكان كل منطقة إلى أخذ زمام الأمور بأيديهم، وطبعاً حال بغداد هي انعكاس مباشر لحال الدولة العراقية برمتها".