"ترندات" السوشيال ميديا تهدد هيبة المعلم والتعليم.. والتربية تتوعد الطلبة المسيئين

13:05, 9/03/2025
2 206

لم تعد التحديات التي تواجه المعلم تقتصر على قاعة الدرس، بل امتدت إلى ساحات الإنترنت، حيث تحوّل منقدٌ للأجيال إلى “ترند” بين مقاطع ساخرة وتوثيقٍ متعمدٍ للهفوات.

وفي ظل تنمّر الطلبة، وتراجع الهيبة، وضغط التكنولوجيا، هل لا يزال المعلم قادرًا على أداء رسالته كما كان؟ 


قناة سنترال على منصّة التلغرام.. آخر التحديثات والأخبار أولًا بأوّل

عقبات عديدة

ويراقب الأستاذ قيصر كل ما يجري في صفه بعين يقظة، يتابع تحركات طلابه، أحاديثهم الجانبية، وحتى أدق التفاصيل، كحركة أيديهم وهم يخرجون أغراضهم من حقائبهم. يرى بوضوح مدى انتباههم للدرس، وكأن مسؤوليتهم باتت درعاً ذهبياً يحمله كل واحد منهم، أما هو، فقد حمل على عاتقه أمانة ثقيلة لا يستهان بها، فهو المعلم الذي كاد أن يكون رسولا، يؤدي رسالته رغم ثقلها.

لكن وسط التزامه بمهمته، يجد الأستاذ قيصر نفسه أمام عقبات عديدة تفصل بينه وبين هدفه، من تنمُّر بعض الطلاب، وكسل آخرين، إلى التهرُّب من الدروس، والخوف من المساءلة العشائرية إن اضطر لمحاسبة أحدهم. 

هذا إلى جانب سيلٍ من الاتهامات التي قد تأتيه من الطلبة أو ذويهم. وكأن هذه التحديات لا تكفي، حتى جاء الهاتف المحمول ليضيف عبئاً جديداً، ليصبح مصدر شرٍّ يعمّق الفجوة بين المعلم وطلابه. 

وبينما يواصل سعيه ليكون قدوةً لهم، يجد نفسه هذه المرة مجرد "ترند" في عالم لا يقدّر جهوده كما ينبغي.


نهاية الحصانة

يؤكد الدكتور عدي عبد شمخي، المتخصص في فلسفة التربية وعلم النفس في الكلية التربوية المفتوحة، أن القيم الأخلاقية تمثل الحجر الأساس في الحفاظ على هوية المجتمع وتميّزه عن غيره، حيث تختلف المجتمعات فيما بينها وفقاً للثقافات والمعايير الأخلاقية التي تتبناها، مما يجعل الحفاظ على هذه القيم ضرورة للحفاظ على الهوية المجتمعية.

ويشير شمخي، إلى أن الجميع يتفق على أهمية القيم الأخلاقية ودورها الفاعل في بناء الإنسان وتشكيل المجتمع بمختلف ثقافاته ومسمياته. لذا، أصبح غرس هذه القيم في نفوس المتعلمين مسؤولية أساسية يجب الاهتمام بها وتحمل تبعاتها. ويؤكد أن مسؤولية ترسيخ القيم لا تقع على عاتق المربين والمعلمين فحسب، بل تشمل رجال الدين والمثقفين والدعاة والمنظِّرين، إلا أن الدور الأكبر يظل بيد المعلمين، نظراً لتأثيرهم العميق في تعديل سلوك المتعلمين وإيصال قيم المجتمع وأهدافه إلى كل أسرة ومنزل عبر المؤسسات التعليمية، إذ لا تخلو أي أسرة من وجود متعلِّمٍ فيها.

ويضيف الدكتور شمخي أن الانفتاح الثقافي الواسع، بفعل وسائل الاتصال الحديثة والإنترنت، زاد من حجم التحديات أمام المربين، وخصوصاً المعلمين، في بناء القيم السليمة لدى الأجيال الناشئة، ومساعدتهم على التمييز بين الخير والشر، والنافع والضار. 

كما يشير إلى انتشار بعض الظواهر السلبية بين المتعلمين مؤخراً، والتي باتت تشكل عبئاً على المؤسسات التعليمية، مثل تصوير مقاطع الفيديو داخل الصفوف الدراسية، كما حدث في "ترند الشوكولاتة". فرغم أن البعض يراه تعبيراً عن محبة المتعلمين، إلا أنه يعكس بوضوح مدى تأثير وسائل التواصل الاجتماعي في عقولهم. ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل امتد إلى توثيق الهفوات والأخطاء داخل المؤسسات التربوية، رغم أنها مؤسسات تعليمية محصَّنة اجتماعياً تهدف إلى بناء العقول وصناعة الإنسان.

ويوضح شمخي أن التعليم في جوهره يهدف إلى تعديل سلوك المتعلم في مختلف الجوانب الاجتماعية والنفسية والعلمية، مشيراً إلى أن المشكلة ليست في الاعتراف بفضل المعلمين أو تسليط الضوء على أنشطتهم، ولا حتى في توثيق الأخطاء بهدف تصحيحها، بل في الاعتماد الكلي على وسائل التواصل الاجتماعي كمصدر للأفكار والقدوات.

ويحذر من أن خرق العادات والتقاليد التربوية والأخلاقية يجعل الفرد ينسلخ عنها تدريجياً، سواء شعر بذلك أم لم يشعر، مما يشكل خطراً على المنظومة التعليمية التي تسعى لتوجيه المتعلمين وحمايتهم من التأثيرات الخارجية السلبية.

ويختتم حديثه بالتأكيد على ضرورة اتخاذ تدابير تحدُّ من هذه الظواهر، مثل حظر المواقع والبرامج التي تؤدي إلى الانحلال التربوي والأخلاقي، وتشديد الرقابة الأسرية على وسائل التكنولوجيا المتاحة للمتعلمين، بالإضافة إلى تعزيز دور المؤسسات التعليمية في غرس القيم والمبادئ السليمة، مع ضرورة التواصل المستمر بين الأسرة والمدرسة لمتابعة سلوك المتعلمين والتغيرات التي تطرأ عليهم.


صورة المعلم

يؤكد المتحدث الرسمي باسم وزارة التربية، كريم السيد، أن العراق ينظر إلى المعلم نظرة خاصة، باعتباره مربِّياً وجزءاً أساسياً من المنظومة التعليمية والتربوية. 

ويوضح أن المعلومات المتوفرة لدى الوزارة تشير إلى أن مثل هذه الظواهر قد لا تكون شائعة في المدارس الحكومية النظامية، بل تنتشر غالباً في بعض المؤسسات الأهلية. ولهذا، فإن الوزارة ستتخذ إجراءات لملاحقة الطلبة الذين ينوون القيام بمثل هذه التصرفات، خاصة إذا لم تكن مجرد حالات فردية أو عفوية، بل أصبحت ظاهرة متكررة، مما قد يؤثر سلباً في صورة المعلم ومكانته في المجتمع.

ويضيف السيد، أن العراق كان ولا يزال يولي المعلم احتراماً كبيراً، حيث شكلت صورته على مرِّ السنين رمزاً للمَهابة والتقدير، مدعومة بالقوانين التي تحمي مكانته. إلا أن بعض السلوكيات، رغم بساطتها في ظاهرها، قد تؤثر بشكل كبير في هذه الصورة.

وأشار إلى أن دخول الهواتف المحمولة إلى الصفوف الدراسية في السنوات الأخيرة انعكس سلباً على العملية التعليمية، لافتاً إلى أن بعض المعلمين يرفضون مثل هذه التصرفات والسلوكيات التي قد تُفسَّر على أنها استخفاف وتقليل من هيبة المعلم. ولهذا، أصدرت الوزارة توجيهات صارمة للحدِّ من هذه الظاهرة والحفاظ على الاحترام المتبادل داخل المؤسسات التعليمية.

كما أوضح السيد أن وزارة التربية اتخذت خلال هذا العام إجراءات تهدف إلى تعزيز السلوكيات الإيجابية داخل المدارس، إلى جانب العملية التعليمية، من بينها إقرار مادة "التربية الأخلاقية" للصفوف الأولى. 

وأضاف أن الوزارة تعمل على ضبط البيئة المدرسية، بما في ذلك الحدِّ من ظاهرة تصوير الطلبة لمعلميهم أو العكس، نظراً لتزايد انتشارها وتأثيرها السلبي في سير العملية التربوية.

واختتم حديثه بالتأكيد على أن الوزارة تسعى إلى إنهاء الظواهر السلبية التي تؤثر في التعليم، سواء كان ذلك من خلال منع التنمُّر بين الطلبة أو الحدِّ من السلوكيات التي تقلل من احترام المعلم، مثل مناداته بألقاب غير لائقة. مشدداً على أهمية الحفاظ على بيئة تعليمية قائمة على الاحترام والانضباط، لضمان استمرارية العملية التربوية بأفضل صورة.


مدرسة المشاغبين

تصف الباحثة الاجتماعية والإعلامية، الدكتورة ريا قحطان أحمد، هذه الظاهرة بكونها امتداداً لصورة سلبية رُسمت عن المعلم في بعض الأعمال الفنية، مشيرةً إلى أن أول عمل أظهر المدرس بصورة متدنِّية وحاول التقليل من قيمته وشأنه كانت مسرحية مدرسة المشاغبين للفنان عادل إمام. 

وتوضح أن المسرحية جعلت مجموعة من الطلبة أبطالاً للقصة، بينما صوّرت المعلم كشخصية ضعيفة وساذجة، مما جعله مادة للتنمُّر والسخرية. ورغم أن المسرحية تحفل بالكوميديا والضحك، إلا أنها تُعرض سنوياً في بعض المناسبات، مما يعزز هذه الصورة النمطية في الأذهان.

وتضيف أحمد، في حديثها لصحيفة الصباح، أن الانفتاح المفاجئ على العالم عبر مواقع التواصل الاجتماعي ساهم في ترسيخ هذه الصورة، حيث يتعرض المشاهد لمئات المقاطع التمثيلية أو مشاهد من الأفلام التي تُظهر المعلم في مواقف سلبية، فضلاً عن محتوى يُشجع الأصغر سناً على التطاول على الأكبر منه وعدم احترامه. 

وتوضح أن تراكم هذه المشاهد في الذاكرة يؤثر في السلوك، وقد يكون أحد العوامل التي أدت إلى الظواهر التي نشهدها اليوم، مثل تصوير المعلم أو مناداته باسمه بطريقة مجردة تقلل من مكانته.

وتؤكد الدكتورة ريا أن انتشار مواقع التواصل الاجتماعي جعل مسؤولية الأهل مضاعفة، مما يستدعي تعزيز دور التنشئة الأسرية بشكل أكبر. وتشدد على ضرورة أن يحرص الآباء والأمهات على تعليم أبنائهم التمييز بين الصواب والخطأ منذ الصغر، وتنمية وعيهم وقدرتهم على إدراك المواقف والأشخاص بشكل صحيح، إضافة إلى توجيههم نحو تطوير مواهبهم وانشغالهم بأنشطة مفيدة، بدلاً من الانغماس المفرط في عالم التواصل الاجتماعي وتأثيراته السلبية.


ما على الطالب.. ما على المعلم

الباحث الاجتماعي والتربوي الدكتور فالح القريشي يبين أن العلاقة بين المعلم والطلاب قوامها الحب والاحترام والمودة والإخلاص، ذلك لأن المعلم بمثابة الأب الذي يربي أولاده ويحبُّ الخير لهم، والطالب في مقام الابن المطيع سمته البرّ والجلال والتوقير لمعلمه.

يضيف القريشي، أنه "للأسف الشديد أصبحت في عصرنا العلاقة بينهما في غاية الجفاء والتوتر وضعفت المودة، وهناك العقوق وقلة الوفاء وسقوط الحدود بين المعلم والطالب، جعل العملية التربوية جسداً بلا روح، وأصبح العنف اللفظي والجسدي بأشكاله المختلفة سائداً عند بعض المعلمين، والقسوة ضد التلاميذ والعنف الرمزي وأقصد بها السخرية والاستهزاء بالطالب أصبح سائداً في مدارسنا، وكذلك اشتغال بعض المعلمين بالتجارة مع طلابها وانشغال البعض الآخر بالحياة السياسية والحزبية على حساب مهامهم التربوية والتعليمية، وأحياناً حضور بعض المعلمين لدعوات وحفلات وولائم وتسقط الكلفة بينهما، ويكون المزاح بينهما".

ونبه إلى أن "ذلك ما جعل قدسية وهيبة المعلم تتراجع، وأصبح الطالب يتصيَّد جوانب ضعف المدرس، مما يتم تعريضه للمقالب والسخرية والتحكم ، لتصل به وصلت الدرجة التبخيس والتقليل من الهيبة والتعليقات التي يلصقونها بالمدرس بعد أن وصفه الشاعر أحمد شوقي (كاد المعلم أن يكون رسولا)".

يؤكد الدكتور فالح، أن "الطلبة بدورهم بدؤوا يتجاسرون على معلميهم، ووصل بهم الأمر إلى الاعتداءات، وأعمال الشغب بالمدرسة، وانقطاع العلاقة بينهما بعد انتشار المخدرات والتدخين، مما أدى إلى إخلال التوازن في المنظومة التربوية ووصل الأمر إلى كتابة رسائل تهديد عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لذلك يجب على المعلم احترام أخلاقيات مهنة التعليم، وأن يضع حدوداً بينه وبين طلابه، وكلٌّ يعرف واجباته وحقوقه ويلتزم بها. وأن يكون المعلم قدوة لطلابه وعلى الطالب أن يحترم معلمه (من علَّمني حرفاً صرت له عبداً)".

يختتم القريشي قائلاً : إن العلاقة بين المعلم والطالب ليست مجرد نقل المعرفة فقط، وإنما بناء شخصية الطالب وتوجيهه وتشكيل أخلاقه وإنسانيته وعلمه وشخصيته. ونحن بدورنا نوجه نداءً لكل العراقيين والمعنيين والطلبة، لنعيد هيبة معلمنا وقداسته.