استيقظت بغداد هذا الصباح على مشهدٍ أثقل من الضباب وأخطر من الدخان، هواءٌ معجونٌ بالكبريت، شوارعٌ يغلفها الرماد، ومدنٌ بشرية تتحرك داخل غيمة رمادية قاتمة.
العاصمة التي تنبض بالحياة تصحو اليوم على تحذيرٍ بيئي غير مسبوق: بغداد في المرتبة السابعة عالمياً بالتلوث، بمستوى 192 نقطة، أي أربعة أضعاف الحد المسموح به.. تذكيرٌ مرعب بأن الهواء الذي يتنفسه أكثر من عشرة ملايين إنسان صار مرضاً يومياً بلا دواء.
المركبات القديمة “مصانع متنقلة للسموم”
تغرق الشوارع البغدادية بأبخرة خانقة امتدت من الكرادة إلى العرصات والمناطق المجاورة، وسط انتشار رائحة الكبريت وتدني مستوى الرؤية.
ويؤكد الخبير البيئي أحمد الساعدي أن المركبات المتهالكة هي العامل الأكثر تدميراً لجودة الهواء، إذ تنفث كميات هائلة من أول أوكسيد الكربون وأكاسيد النيتروجين والجسيمات الدقيقة، نتيجة محركاتها غير المطابقة للمعايير الحديثة.
ووفق مرصد العراق الأخضر، فإن عوادم المركبات مسؤولة عن 60% من ملوثات العاصمة، في ظل غياب قاعدة بيانات تحدد السيارات غير المطابقة بيئياً، وتراجع الفحص الدوري. وتتفاقم الأزمة مع المولدات الأهلية وحرق النفايات والانبعاثات الصناعية، في ظل غياب منظومة وطنية لقياس جودة الهواء.
وتحذر وزارة الصحة من أن مستويات الجسيمات الدقيقة في بغداد تتجاوز الحدود الآمنة بأكثر من عشرة أضعاف، ما ساهم في ارتفاع أمراض الربو والتهاب القصبات بنسبة 30% خلال السنوات الأخيرة. ويقدّر الأطباء أن استنشاق هواء بغداد اليوم يعادل تدخين علبة سجائر أسبوعياً.
مصانع الطابوق.. “القاتل الأكبر في النهروان”
تُعدّ مصانع الطابوق المصدر الأخطر لتلوث الهواء في بغداد، إذ تشكل 55% من إجمالي الانبعاثات. ويضم مجمع النهروان الصناعي وحده 216 مصنعاً مرخصاً، إضافة إلى عشرات غير المرخصة تعمل من دون التزام بمعايير السلامة.
تعتمد هذه المصانع على تقنيات بدائية وحرق النفط الخام، ما يطلق ملوثات قاتلة مثل NOx وSOx وCOx. وكشفت فحوصات ديوان الرقابة المالية عن مستويات خطرة من الجسيمات المعدنية والمسرطنة في محيط النهروان، ما يجعل المنطقة بقعة حمراء على الخريطة البيئية.
النفايات ومحطات الطاقة.. تهديدات تتراكم بصمت
تشكل مواقع طمر النفايات ومحطات النقل البالغ عددها 68 موقعاً ما نسبته 4.56% من مصادر التلوث، حيث تطلق غاز الميثان—الأخطر بـ80 مرة من ثاني أكسيد الكربون—إضافة إلى غازات سامة أخرى. وتزيد المحطات العشوائية من انتشار الأمراض وتدهور جودة الهواء في الأحياء المكتظة.
أما محطات الطاقة الحرارية والغازية، مثل الدورة والقدس، فتسهم بنحو 0.87% فقط من إجمالي التلوث، لكنها تُصَنّف ضمن “الفئة A” للملوثات شديدة الخطورة بسبب تركيز انبعاثاتها وغياب أنظمة رقابة حقيقية.
حلول غائبة… وأزمة تتوسع
يدعو الخبير الساعدي إلى برنامج وطني لاستبدال المركبات القديمة بسيارات حديثة وصديقة للبيئة، مع إعفاءات جمركية تشجع المواطنين، لكنه يعترف بأن ضعف النقل العام وغياب التمويل يجعل التنفيذ مؤجلاً بلا أفق.
وفي المدارس القريبة من الطرق المزدحمة، يروي المعلمون ارتفاعاً ملحوظاً في حالات الربو بين الأطفال، وفصولاً تُغلق نوافذها حتى شتاءً خوفاً من الهواء الخارجي.
ويرى مختصون أن التحول إلى النقل الكهربائي يمكن أن يخفض انبعاثات بغداد بنسبة 25% خلال خمس سنوات إذا استُبدل 10% فقط من السيارات الحالية. ويؤكد خبراء التخطيط الحضري أن إحياء النقل العام الكهربائي—حافلات ومترو—هو حجر الزاوية لأي إصلاح جدي.
ومع غياب الرقابة البيئية، تعمل وزارة البيئة بتجهيزات متقادمة دون نشر بيانات دورية عن جودة الهواء، فيما يطالب خبراء بإنشاء هيئة وطنية مستقلة تقيس التلوث وتنشر النتائج باعتبار الشفافية البيئية حقاً أساسياً للمواطن.
وتكشف أزمة التلوث في بغداد خللاً عميقاً في إدارة البيئة والخدمات، وتؤكد أن العاصمة تحتاج قرارات تنفيذية عاجلة لا بيانات موسمية. كل يوم تأخير يعني مزيداً من الأمراض، ومزيداً من الخسائر، ومزيداً من الهواء الذي لا يصلح للحياة.