بعيداً عن الجدل السياسي الذي يطغى على المشهد العراقي، تمضي الحكومة بخطوات ثابتة لتنفيذ برنامجها الخدمي والاقتصادي، وفي مقدمة هذه الخطوات مشروع "توطين الصناعات الدوائية"، الذي مثّل خلال السنوات الأربع الماضية أحد أهم التحولات في ملف الأمن الصحي للبلاد.
وتستعد بغداد مطلع كانون الأول المقبل لافتتاح أكبر مصنع لإنتاج أدوية السرطان في المنطقة، بطاقة إنتاجية هي الأولى من نوعها، وبكلفة بلغت 50 مليون يورو، ضمن خطة حكومية تهدف إلى تقليل الاعتماد على الاستيراد وتوفير الأدوية الحساسة بأسعار مدعومة.
نقلة دوائية كبرى
مستشار رئيس الوزراء لشؤون الصناعة والتنمية، حمودي اللامي، أكد في تصريح، أن الحكومة أولت منذ انطلاقها ملف الدواء أهمية استثنائية، خصوصاً أدوية السرطان التي تشكل عبئاً مالياً كبيراً على المرضى ووزارة الصحة على حدّ سواء.
وأوضح أن "المصنع الجديد في منطقة أبو غريب يمثل "نقطة تحول" في قدرة العراق على إنتاج الأدوية عالية الحساسية"، مشيراً إلى أن "خطوط الإنتاج تم تجهيزها عبر شركات أوروبية رصينة، وتعد من الأكثر تطوراً في هذا المجال".
وأضاف اللامي أن "الدواء المحلي سيكون أقل كلفة بنسبة 50% من المستورد، إذ تتحمل الدولة جزءاً كبيراً من الدعم"، مؤكداً أن "الوزارة ستتمكن من تغطية نسبة كبيرة من احتياجات المستشفيات الحكومية، بعد تسجيل عدد من التركيبات الدوائية ودخول أخرى مراحل تسجيل متقدمة".
خطة الصناعة الدوائية: 19 مصنعاً قيد الإنجاز
وتشير البيانات الحكومية إلى أن خطة التوطين تشمل 19 مصنعاً قيد الإنشاء، بعضها بلغ مراحل متقدمة وسيكون جاهزاً للتشغيل خلال العام المقبل، ما يعكس حجم الدعم المالي والفني المقدم لهذا القطاع الذي ظل لعقود معطلاً.
وأوضح اللامي أن "إنتاج أدوية السرطان يُعد من أكثر الصناعات تعقيداً، إذ يتطلب تجهيزات تقنية وتكنولوجية تستغرق عادة خمس سنوات".
لكن الخطة الحكومية تراهن على تقليص المدة إلى ثلاث سنوات فقط عبر تسريع مراحل الإنتاج، وافتتاح مصانع موازية في البصرة قبل نهاية العام الحالي، إلى جانب المصنع الذي افتتح سابقاً في كربلاء ضمن البرنامج ذاته.
وتأتي هذه الخطوة في وقت تعاني فيه البلاد منذ سنوات من ارتفاع كبير في أعداد مرضى السرطان وفق تقارير غير رسمية لدوائر الصحة، ونقص متكرر في أدوية البروتوكولات العلاجية التي كانت تعتمد على الاستيراد عبر "كماديا"، فضلاً عن تذبذب التجهيز نتيجة الأزمات المالية والبيروقراطية.
وبحسب تقارير صحفية سابقة نشرتها وكالات عراقية، فإن العراق كان يعتمد بنسبة تفوق 90% على الأدوية المستوردة، مما جعل أي أزمة مالية أو سياسية تتسبب باضطرابات فورية في توفير الدواء، خصوصاً لمرضى السرطان.
وفي السياق ذاته، أكدت النائب السابق وعضو لجنة الصحة والبيئة ثناء الزجراوي، أن اللجنة عملت على إدراج 80–90% من قائمة الأدوية الأساسية ضمن الموازنة لضمان استمرارية العلاج للمرضى، مشيرة إلى أن تطوير الصناعة المحلية سيقلل من فاتورة الاستيراد ويحمي المستشفيات من أي "فراغ دوائي".
اتجاه استراتيجي نحو الاكتفاء الذاتي
وترى مصادر طبية أن هذه الخطوات قد تمثل "تحولاً تاريخياً" في قدرة العراق على تأمين دواء مستدام، خصوصاً مع ربط المصانع الجديدة بنظام رقابي يضمن الجودة، وتدريب كوادر محلية قادرة على تشغيل خطوط إنتاج متقدمة.
كما تشير خلفيات إعلامية إلى أن الحكومة تستهدف تقليل الاعتماد على الدول المورّدة التي غالباً ما تتأثر عقودها بالعقوبات، أسعار الصرف، وشروط التوريد، مما يجعل الإنتاج المحلي خياراً استراتيجياً لا بديلاً عنه.