العشوائيات في العراق.. أزمة سكن تتحول إلى "سلعة" انتخابية بأثمان إنسانية

اليوم, 12:27
974

في الوقت الذي يئن فيه أكثر من ثلاثة ملايين عراقي تحت سقف الصفيح والطين، تحوّلت أزمة العشوائيات في العراق من قضية إنسانية واجتماعية إلى ورقة انتخابية مربحة للقوى السياسية المتنفذة، تتكرر الوعود في كل موسم انتخابي، فيما تظل المعاناة على حالها، ويتفاقم واقع التجمعات العشوائية، التي تجاوز عددها أربعة آلاف، لتصبح شاهداً حيّاً على غياب الرؤية التخطيطية، والتساهل المزمن مع البناء غير المنظم.

 

وبدلاً من إيجاد حلول حقيقية تُعالج جذور الظاهرة، اختارت الحكومات المتعاقبة التعامل مع الملف بمنطق التأجيل والانتفاع السياسي، في وقت يدفع فيه المواطن ثمن الإهمال من أمنه، وصحته، وكرامته.


قناة سنترال على منصّة التلغرام.. آخر التحديثات والأخبار أولًا بأوّل

 

وتشير البيانات الرسمية إلى أن أكثر من 3.4 ملايين مواطن يعيشون حالياً في تجمعات سكنية عشوائية موزعة على أكثر من أربعة آلاف موقع داخل المدن العراقية، حيث تُعد العاصمة بغداد الأكثر تأثراً بهذه الظاهرة، حيث تستقطب سنوياً ما لا يقل عن 250 إلى 300 ألف شخص نتيجة تركّز مراكز التعليم والصحة والتجارة فيها، ما يضاعف الضغط على الخدمات والبنى التحتية. 

 

ووفقاً لتصريحات المتحدث باسم وزارة التخطيط، عبد الزهرة الهنداوي، فإن العراق يشهد نمواً سكانياً سنوياً يقدر بـ2.5%، أي ما يعادل أكثر من مليون ومئتي ألف نسمة سنوياً، الأمر الذي يفاقم أزمة السكن في ظل غياب سياسات إسكان واضحة وطويلة الأمد.

 

ورغم إطلاق وزارة التخطيط لخطة التنمية الخمسية (2024 – 2028) ووثيقة وطنية للسياسات السكانية تتضمن محاور متنوعة في الصحة والتعليم والسكن، إلى جانب الاستعداد لإطلاق استراتيجية مكافحة الفقر الثالثة (2026 – 2030)، إلا أن هذه المبادرات لا تزال تواجه تحديات التطبيق على الأرض، في ظل هيمنة المقاربات السياسية الموسمية على الملفات التنموية.

 

ويرى أستاذ الاقتصاد الدولي نوار السعدي أن عجز الحكومات عن معالجة ملف العشوائيات لا يرتبط فقط بنقص الموارد المالية، بل هو نتيجة تراكمات سياسية وإدارية وهيكلية جعلت من الأزمة معقدة ومتجذرة، فالمشكلة تبدأ من غياب تخطيط عمراني فعال، وتضارب السياسات المتعلقة بإدارة الأراضي، وانعدام نظم واضحة للملكية. كما ساهم ضعف مؤسسات التخطيط المحلي، وغياب قاعدة بيانات دقيقة للتجمعات وحقوق الأرض، وانعدام التمويل المستدام، في تكريس الوضع القائم.

 

ويلفت السعدي إلى أن التعامل السياسي مع ملف العشوائيات كان في معظمه انتخابياً، حيث جرى استخدام وعود التوظيف أو توزيع الأراضي وسيلة لجذب الولاءات، بدلاً من اعتماد برامج تنموية مدروسة تضع حلولاً مستدامة. وقدّم السعدي خطة من ثلاث مراحل لمعالجة الأزمة، تبدأ على المدى القصير بإجراء حصر رقمي شامل للسكان وحقوقهم، وتوفير خدمات عاجلة مثل مياه شرب آمنة، صرف صحي مؤقت، وكهرباء جزئية، إلى جانب تشغيل السكان المحليين في مشاريع صيانة البنية التحتية.

 

أما في المدى المتوسط، فيقترح تطبيق سياسة "الترقية بدل الإخلاء"، عبر منح عقود إيجار طويلة الأمد أو ضمانات ملكية مؤقتة تشجع السكان على تطوير مساكنهم، بينما تتطلب المرحلة الطويلة الأمد إعادة هيكلة منظومة الأراضي والإسكان من خلال إصلاحات تشريعية، وتفعيل آليات الضرائب العقارية، وبناء قدرات البلديات على تخطيط مدن مستدامة، وربط سكان العشوائيات ببرامج تدريب مهني وسلاسل إنتاج محلية.

 

كما أوصى السعدي بإنشاء صندوق وطني للإسكان يُموّل من إيرادات النفط أو من خلال إصدار سندات محلية، إلى جانب تحسين تحصيل الضرائب العقارية، وتوفير آليات دفع مرنة لضمان إكمال المشاريع السكنية القانونية، محذراً في الوقت ذاته من أن الاستمرار في اعتماد حلول مؤقتة سيجعل من المعالجة المستقبلية أكثر كلفة وتعقيداً.

 

من جهته، يؤكد الخبير الاقتصادي صالح الهماشي أن أزمة العشوائيات في العراق ليست فريدة من نوعها، بل شهدتها دول مثل مصر التي تمكنت من معالجتها عبر خطط حقيقية.

 

ويشير الهماشي إلى أن العشوائيات في العراق لم تعد مجرد مساكن بل أصبحت بيئة لنشاطات تجارية واقتصادية، بحكم قربها من مراكز العمل، مما يصعّب مهمة إزالتها أو تفكيكها. كما يرى أن مرور عقود على وجود هذه التجمعات منح سكانها "حقاً مكتسباً" في السكن، يعززه الاعتراف الدولي والدستوري بحقوق السكن بعد فترة زمنية معينة.

 

ويؤكد الهماشي أن الحل يتطلب ميزانية واضحة وخطة متكاملة تبدأ بتخصيص أراضٍ بديلة مخدومة داخل المدن، وتوفير البنية التحتية الأساسية، مع منح السكان المستحقين مبالغ مالية لبناء منازلهم بأنفسهم ضمن إطار قانوني منظم، بعيداً عن الاعتماد الكامل على بناء المجمعات الجاهزة من قبل الدولة، مشددا على أن نجاح أي خطة مرهون بقرارات حاسمة وإرادة سياسية حقيقية لا تخضع للضغوط الانتخابية أو الحسابات الضيقة.

 

وتظل العشوائيات في العراق عنواناً صارخاً للفجوة بين الشعارات والواقع، بين السياسة والتنمية، وبين ما يُقال في المؤتمرات وما يُترك من معاناة على الأرض، ومع دخول العراق مرحلة جديدة من الخطط التنموية والاستراتيجيات السكانية، فإن السؤال الجوهري يبقى: هل سيُرفع هذا الملف من طاولة المزايدات السياسية إلى ميدان الفعل المؤسسي؟ أم أن بقاء ملايين المواطنين رهائن الوحل والصفيح سيبقى الثمن الذي يُدفع لتأجيل الحل، دورة انتخابية بعد أخرى؟