تواصلت بشكل كثيف في العراق خلال الفترة الأخيرة الدعوات إلى مقاطعة موائد الطعام التي تنظمها أسرة المتوفى في مناسبات العزاء، والتي تُخالف التقاليد الموروثة، لكنها تشكل مبادرة لمؤازرة أهل المتوفى، وعدم تحميلهم ما يفوق طاقتهم في ظل أوضاع معيشية صعبة.
يقول أحمد المختار، أحد وجهاء منطقة الطوبجي في بغداد، "يعبّر حضور الناس مناسبات العزاء عن التضامن والتعاطف مع أسرة المتوفى، ويوفر الدعم المعنوي لهم، وله أهمية مجتمعية كبيرة في إظهار الوحدة والتكاتف في اللحظات الصعبة، والاهتمام بالعائلة المتأثرة بالفقدان، كان والدي يصحبني إلى مجالس العزاء، حيث تُقدم ضيافة تشمل الطعام والشراب، وهذا ما اعتدناه حتى اليوم، حتى إن كانت الحالة المادية للمتوفى ضعيفة، كان يجب أن تقدم عائلته الضيافة للحضور".
يضيف المختار: "يعارض كثيرون حالياً تلك العادة، ما جعلها تتراجع، وأصبح طبيعياً عدم تقديم الطعام في العزاء، والاقتصار على الماء والشاي والقهوة، وبعدما كنت أعارض مخالفة هذه العادة الموروثة، أصبحت أدعم وقفها، وأؤيد الحملات التي تدعو إلى محاربتها".
وسبق أن أصدرت عشائر وجهات رسمية واجتماعية، من بينها الوقف السني، بيانات دعت فيها إلى مقاطعة تقديم الطعام في مناسبات العزاء.
يقول الباحث في التراث العراقي صلاح الجميلي، "يشتمل العزاء على تحضيرات ومراسم، وتتشابه التفاصيل إلى حدّ كبير في مختلف مدن العراق، وتمثل جزءاً من التراث الشعبي الذي يعتزّ به كثيرون ممن يهتمون بالانتماء القبلي، ويعتبرون الموروثات قوانين لا يمكن تجاهلها، وتقام مجالس العزاء لمدة يوم كامل، وقد تمتد إلى ثلاثة أيام، وربما يوماً إضافياً أو أكثر بحسب استمرار قدوم المعزين من مناطق بعيدة".
يضيف الجميلي: "كانت مجالس العزاء تقام غالباً داخل سرادق كبيرة، لكن انتشار قاعات المناسبات خلال العقدين الماضيين قلّص استخدام السرادق، وفي التقليد الموروث، يُحضِر أهل المتوفى متخصصين لإعداد الطعام، إذ لا بدّ من تقديم طعام جيد للضيوف في وجبتي الغداء والعشاء، إذ يبدأ حضور المعزين قبل الظهر عادة، ويستمر حتى الليل، وتشمل الوجبة أطباقاً رئيسية تشمل الأرز واللحم وأنواعاً من المرق، ويكون اللبن الرائب الشراب الرئيسي بالإضافة إلى الحلويات، ما يكلّف أهل المتوفى الكثير من الوقت والمال والمجهود، لكن من بين العادات الموروثة أيضاً أن يُقدم المعزون مبلغاً مالياً لذوي المتوفى من أجل تخفيف الأعباء عنهم، وهذه عادة جيدة تعبّر عن التضامن والتكاتف في الظروف الأليمة التي تمر بها أسرة الفقيد".
ويؤكد عضو مجلس عشائر بغداد، الشيخ عبد السلام النعيمي، أن "عادات مناسبات العزاء تشهد محاربة من المجتمع بسبب ما تُكبده من أضرار لعائلة المتوفى، وهي أمور لم تكن منظورة في السابق حين كانت ظروف وطبيعة حياة الناس مختلفة اليوم، هناك غلاء فاحش في الأسعار، في حين اختلفت طبيعة معيشة الناس وظروف عملهم، كما أن المجتمع بات أكثر وعياً، في السابق كانت العائلة الفقيرة تضطر إلى تقديم موائد طعام في العزاء حتى إذا اضطرت إلى الاستدانة، لأن عدم فعل ذلك أمر معيب، ويعدّ بمثابة إهانة للقادمين للتعزية، هذا الأمر لم يعد موجوداً اليوم".
ويشير النعيمي إلى أن "جميع شيوخ القبائل يدعون إلى وقف تقديم الطعام في العزاء، والتخفيف على أهل المتوفى عبر تعزيتهم من خلال إجراء زيارة قصيرة، لا سيما أن الدين الإسلامي يحثّ على الوقوف إلى جانب أهل المتوفى، وليس تكليفهم ما يزيد على طاقتهم".
ويقول الناشط المدني صفاء داود، إن "الحملات التي أطلقتها جهات عدة وناشطون لوقف تقديم الطعام في مناسبات العزاء قوبلت بصدى كبير، وأثّرت في المجتمع بشكل واسع"، ويوضح أن "هذه الدعوة التي أطلقها ناشطون قبل بضعة سنوات لقيت ترحيباً من قبل الطبقة المثقفة التي أسهمت بدورها في نشرها عبر مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام، فالغاية الأساسية منها التخفيف عن كاهل الناس".