رغم الأسلحة الفتاكة التي يقتل بها الكيان الصهيوني المدنيين في غزة ولبنان، ألا أن هناك داعم كبير للترويج لمصنّعي هذه الأسلحة من قبل الإعلام الغربي الذي تسيطر عليه هذه الشركات بنسبة كبيرة.
ومثال على ذلك، ما حدث في التاسع من شهر تشرين الثاني 2023، والتي استهدف فيها جيش الاحتلال الصهيوني تجمعاً للصحافيين أمام مستشفى الشفاء قبل اقتحامه لأول مرة.
يمكن الانطلاق من هذه الجريمة للحديث عن استهداف المستشفيات والصحافيين، بوصفهما مؤشرين أساسيين لحرب الإبادة الإسرائيلية في غزة. لكننا الحديث هو بالتحديد عن الصاروخ الذي سقط على الصحافيين المتجمعين خارج المستشفى.
صاروخ صنّعته وباعته لإسرائيل شركة لوكهيد مارتن الأميركية، أكبر شركة مصنعة للأسلحة في العالم، التي تزوّد الاحتلال بطائرات مقاتلة من طراز إف-16 وإف-35، لقصف غزة، كما تزوّد الجيش الإسرائيلي بمجموعة واسعة من الذخائر وأنظمة إطلاق الصواريخ.
وبحسب موقع شركة لوكهيد مارتن الإلكتروني الرسمي، من المتوقع أن يتجاوز حجم التعاون بينها والصناعات الإسرائيلية 6 مليارات دولار قريباً. هذه المليارات التي تراكمها الشركة، وغيرها من شركات تصنيع الأسلحة والمعدات الحربية الأميركية، تقابلها ماكينة إعلام وضغط عملاقة، تعمل بشكل أساسي على خلق رأي عام داعم للحروب والعسكرة بهدف تأمين سوق مستمرة للأسلحة والطائرات والذخائر.
يتداخل عمل شركات الأسلحة والإعلام بشكل مباشر وإن غير واضح المعالم دائماً، خصوصاً أن له مستويات متعددة ومعقدة تتراوح بين الإعلانات المدفوعة في المؤسسات الإعلامية وبين الاستثمار غير المباشر. ووسط التفاصيل التي تشكّل هذه المستويات المتشابكة من العلاقة بين الطرفَين يتضح جزء من أسباب انحياز الإعلام الغربي، الأميركي خاصة، للاحتلال الإسرائيلي في حرب الإبادة التي ينفذها في قطاع غزة منذ أكثر من عام، والتشجيع على مواصلة الحرب.
علاقة شركات التصنيع بالإعلام الأمريكي
هذا التداخل والتضارب في المصالح له اسم يلخّصه ويعرّفه "المجمّع العسكري الصناعي الإعلامي"، الذي يختصر العلاقة بين الجيوش ممثلة بوزارة الدفاع، وشركات تصنيع، والإعلام الأميركي.
والمصطلح نسخة موسعة من مفهوم آخر هو "المجمّع العسكري الصناعي" التي أطلقها الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور في خطابه الوداعي عام 1961، حين حذّر من خطورة نشوء تحالف قوي بين الجيش وشركات صناعات الأسلحة على السياسة العامة.
على مدى العقود التالية، وسّع النقاد والباحثون هذا المفهوم ليشمل الإعلام، مشيرين إلى أن هذه الصناعات تلعب دوراً حاسماً في تشكيل الرأي العام حول الحروب، والإنفاق الدفاعي، والسياسة الخارجية.
فلسطين قبل الإبادة وبعدها
لانحياز الإعلام الغربي للرواية الصهيونية منذ ما قبل السابع من أكتوبر/ تشرين الأول أسباب كثيرة، سياسية وثقافية وأيديولوجية وعنصرية. ولهيئات التحرير فيها أيضاً التأثير الأكبر، خصوصاً أن قسماً كبيراً ممن يغطون أو يشرفون على تغطية الملف الفلسطيني، سبق أن خدموا في جيش الاحتلال أو يحملون الجنسية الإسرائيلية. لكن لا يمكن إهمال دور شركات تصنيع الأسلحة في صياغة خطاب يشجّع على العسكرة ومواصلة الحرب دعماً لإسرائيل.
بحسب تقرير أعدّه وبثه "التلفزيون العربي" أخيراً، تخطت إيرادات شركة لوكهيد مارتن في الربع الثالث من العام الحالي 17 مليار دولار، ورفعت توقعات إيراداتها للسنة المالية لأكثر من 71 مليار دولار. بينما ارتفعت إيرادات جنرال ديناميكس (تصنّع دبابات أبرامز) للربع الثالث لتصل إلى 11 ملياراً و700 مليون دولار.
الأمر نفسه ينطبق على شركة نورثروب غرومان التي ارتفعت مبيعاتها إلى نحو 10 مليارات دولار. أما شركة RTX فسجلت مبيعات بقيمة 20 مليار دولار.
هذه المليارات المتراكمة على شكل أرباح يوازيها خطاب إعلامي يجعل من إسرائيل وأسلحتها وطائراتها وصواريخها أسطورة العصر الحديث.
"كيف تعمل القبة الحديدية الإسرائيلية؟"، "شاهد القبة الحديدية تعترض صواريخ أطلقت من لبنان نحو إسرائيل"، "القبة الحديدية الإسرائيلية المذهلة، أنقذت آلاف الأرواح"، هذه عينة من عناوين التقارير التي عرضتها المؤسسات الإعلامية على الشاشات أو على مواقعها الإلكترونية، منذ بدء حرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة.
هذا الانبهار بالقبة الحديدية يصبح أكثر فهماً، عندما ندرك أن شركة RTX الأميركية ساهمت في تصنيع وصيانة وتأمين الصواريخ الاعتراضية للقبة الحديدية، وبين RTX (رايثيون سابقاً) ومعها كبرى شركات الأسلحة، وبين المؤسسات الإعلامية الكبرى، كلمَتا سرّ تشرحان تشابك العلاقات والمصالح: بلاكروك وفانغارد.
بلاكروك هي أكبر شركة لإدارة الأصول في العالم، إذ تبلغ الأصول الخاضعة للإدارة 11.5 تريليون دولار. أما فانغارد فهي أكبر مزود للصناديق المشتركة وثاني أكبر مزود لصناديق المؤشرات المتداولة في البورصة، بعد بلاكروك.
تستثمر الشركتان في كل المؤسسات الإعلامية الأميركية تقريباً. وتملكان معاً 18% من شبكة فوكس، و16% من "سي بي إس"، و13% من كوماست - التي تملك شبكات إن بي سي، وإم إس إن بي سي، وسي إن بي سي، ومجموعة سكاي الإعلامية ــ و12% من "سي إن إن"، و12% من "ديزني"، بحسب أرقام نشرتها عام 2021 مجلة ذا كومن ريدر التي تصدرها جامعة واشنطن في سانت لويس.
في موازاة هذا الاستثمار في الإعلام، تملك الشركتان حصصاً ضخمة في شركات تصنيع الأسلحة والطائرات الحربية والمعدات العسكرية. على سبيل المثال تملك فانغارد 9.15% من الأسهم في "لوكهيد مارتن" مقابل 7.51% لـ"بلاكروك"، بينما تملك الأولى 8.71% من أسهم RTX، مقابل 7.20% للثانية، كما تشير بيانات الشركتين على موقعيهما الإلكتروني.
هكذا تستغل شركتا الاستثمار الضخمتان المؤسسات الإعلامية للترويج للأسلحة التي تصنّعها الشركات الكبرى وتصدّرها لإسرائيل.
مثال آخر هو شركة أوراكل، وشبكة إيه بي سي (ABC). تملك إمبراطورية ديزني للترفيه والإعلام قناة ABC، لكن ما يثير الاهتمام هو أن أكبر مساهم في "ديزني" هي سافرا إيه. كاتز، سيدة الأعمال الإسرائيلية الأميركية والرئيسة التنفيذية لشركة أوراكل العملاقة.
تلعب "أوراكل" دوراً مهماً في المجال العسكري من خلال شراكتها مع أنظمة رافائيل الدفاعية المتقدمة، المصنّع الرئيسي للأسلحة في إسرائيل. تقدم "أوراكل" حلولاً تكنولوجية تتعلق بالحوسبة السحابية وتحليل البيانات التي تسهّل العمليات العسكرية على الأرض. هذه الحلول تمكن الجهات العسكرية من تحسين استراتيجياتها وعملياتها عبر دمج التكنولوجيا المتقدمة في الأنظمة الدفاعية على الأرض.
كل ما سبق ليس سوى عيّنة صغيرة، وأمثلة محددة عن سطوة شركات صناعة الأسلحة على الخطاب الإعلامي، خصوصاً خلال الحروب، لكن القرن الماضي مليء بأمثلة أخرى عن تداخل المصالح وخلق سردية إعلامية مشجّعة على العسكرة والمجازر، من أفغانستان إلى العراق، ومن أوكرانيا إلى غزة.